فموضع الاحتجاج والحجية يكون بعد استقرار الأقوال وثبوتها، لا حين وقوع النازلة، وتردد النظر والبحث فيها.
* * *
- النتيجة:
إذا تقرر ما سبق، فإن قول الجمهور حجة في الأحوال التالية:
- إذا كان في أقوال الصحابة؛ للتنصيص على فضلهم في الدين، والأمر باتباعهم.
- إذا كان في أقوال التابعين؛ للتنصيص على فضلهم، كونهم من أهل القرون المفضلة.
- إذا كان في أقوال تابعي التابعين؛ للتنصيص على فضلهم، كونهم من أهل القرون الفاضلة.
- إذا كان في أقوال من تبعهم؛ يلحقون في الحكم بأهل القرون المفضلة، كونهم اقتدوا بنهجهم.
ولا يكون حجة في الأحوال التالية:
- إذا كان المخالفون لهم أعظم منهم إمامة وعلما، كأبي بكر وعمر في مقابل غيرهم.
- إذا كان الجمهور من سوى السلف، من أهل الفرق الإسلامية، قديما أو حديثا. وهذا عموما، غير أن هذا القسم فيه تفصيل:
- فإن كان هذا الجمهور موافقا للسلف، فينضمون إليهم، ويعدون معهم في المسألة التي اتفقوا فيها، وهذا يظهر في مسائل الفقه خصوصا؛ فالممنوع الاستشهاد بقول صاحب بدعة في بدعته، وما عدا ذلك فلا مانع.
* (هذه المسألة مشهورة، فالرواية عن الخوارج في كتب الحديث معروفة، ونقل أهل السنة لأقوال الموافقين من المبتدعة من أهل الكلام والتصوف وغيرهم في المسائل أمر غير مستغرب، فكتب ابن تيمية طافحة) *.
- وإن كان مخالفا للسلف، فلا حجة في قولهم، ولو بلغوا أضعاف السلف؛ لأن شرط الاتباع ساقط، فالكثرة حينئذ لا تنفع، وهذا يظهر في مسائل الاعتقاد خصوصا.
* * *
- تعقيب.
وكون قول الجمهور حجة فإنه يعني: وجوب اتباعهم، وعدم مخالفتهم.
فإذا قيل فما الفرق حينئذ بينه وبين الإجماع؟. فالجواب:
- أن مخالفة الإجماع بدعة وضلالة، وتكون مشاققة للرسول، واتباع لسبيل غير المؤمنين، إذا كانت عن هوى، كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
* (أنبه هنا: إلى مخالفة الإجماع بدعة وضلالة بإطلاق؛ الفعل نفسه، أما مشاققة الرسول فتكون عن هوى؛ الفاعل نفسه. هكذا هو الكلام آنفا، فهما نوعان: فعل، وفاعل.؛ ولذا جاء التعقيب بقول: "وتكون مشاققة .. "، فهو نوع آخر إذن) *.
- وأن مخالفة قول الجمهور:
- قد تكون بدعة، كمخالفة الإجماع، وذلك إذا كان المسألة فيها إجماع الصحابة، ثم جاء من بعدهم فاختلفوا، فجمهورهم مع الصحابة، وقلتهم مخالفون، فحينئذ الحجة في قول الجمهور، وقد تجلى هذا في مخالفة بعض العلماء من السلف لأقوال عموم السلف الموافقة للصحابة في أصول الدين، كالإيمان والقدر، وكانت عن اجتهاد لم يصيبوا فيه، لا عن هوى، فإن كان عن هوى، فلها حكم مخالفة الإجماع عن هوى.
- وقد تكون خطأ، وقد تجلت في فروع المسائل العقدية والفقهية، فإن كانت عن هوى، فإثم ومعصية، وإن كانت عن اجتهاد، فلهم أجر الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، ولا يوافقون، ولا يعاملون كمبتدع.
* (تنبيه: وصف "تجلت" لا يدل على الحصر، بل يدل على الطغيان، وعلى ذلك فقد يكون الخطأ في الأصول، ويكون صاحبه مجتهدا، مغفورا له، فليس في الكلام إذن ما يخرج الأصول مطلقا) *.
ومن ذلك يتضح أن مخالفة الجمهور ليس من الخلاف السائغ، إنما السائغ من الخلاف ما كان فيه كفتي العلماء متساوية، أو قريبة من التساوي، دون غلبة ظاهرة، ليس في العدد فحسب، بل في الإمامة في الدين.
* * *
تعليق:
أرى هذه المسألة فيها كثير من الاشتباه، ومنشأ ذلك: الإطلاقات دون تقييد.
- فالقول: إن قول الجمهور حجة. بإطلاق خطأ ظاهر، بل لا بد من قيود وشروط.
- والقول: بأن قول الجمهور ليس بحجة بإطلاق، فذلك خطأ ظاهر كذلك، لأن ذلك يفضي إلى إشكالات كثيرة:
- إلى الطعن في حجية الإجماع نفسه، كما قد تبين.
- إلى رفض أقوال جمهور العلماء في مسائل الاعتقاد، وتجويز مخالفتهم لوجود مخالفين لهم.
- إلى جواز ترجيح بعض الأقوال المنفردة التي كان عليها بعض الصحابة، مثل:
- إتمام عثمان رضي الله للرباعية في منى.
- إدخال الماء في العينين في الوضوء، كفعل ابن عمر.
- أكل البرد للصائم، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري.
- جواز المتعة، كما جاء عن ابن عباس.
كل هذه المسائل وغيرها جاءت عن الصحابة، لكن جمهورهم ذهبوا إلى خلافها، فكان القول قول الجمهور.
¥