* (معلوم أن الإجماع ثابت بالنص، لكن من الذي استخرج هذا النص، ثم حكم به؟ .. ثم ألم يخالف فيه بعضهم، وهم مسلمون، وبعضهم أئمة؟ .. فكيف حكمنا بين الفريقين؟ .. لا جواب إلا واحد: حكمنا بتقديم قول الجمهور على غيرهم. وبهذا ثبت الإجماع كحجة، فإذا عرف هذا فحينئذ اقرأ ما قاله الأخ: "أقول: خطأ، لأن حجية الإجماع أصلاً حجيته من النص عليه في الكتاب والسنة، ولا يحتاج إلى قول الجمهور لحجيته".
وكأنه يقول: لا حاجة أن أعرف حجية الإجماع بقول أحد، حتى لو مكث الناس كل قرون الإسلام لا يتكلمون فيها، لكانت معروفة لمن بعدهم .. !!، لكن هذا الكلام مبناه: على افتراض القطيعة بين النص وقول الجمهور. ولذا قدمت منذ أول الكلام: أن شرط حجية الجمهور: أن يكون مبينا على نص ثابت. وغير هذا فليس من قولي، ولا يلزمني) *.
- فإجماع الصحابة خالف في حجيته المعتزلة، لكن جمهور المسلمين احتجوا به، فصار حجة.
- وإجماع التابعين خالف في حجيته الظاهرية، لكن جمهور المسلمين احتجوا به، فصار حجة.
* (وجه ذكر المعتزلة: أنهم من جملة المسلمين. ومصطلح الجمهور واسع، يشمل كل المسلمين، بمن فيهم أصحاب الوعيد، وعادة الذين ينكرون حجية قول الجمهور: أنهم ينكرونها بإطلاق دون تفصيل. فيدخل حينئذ في إنكارهم حجية قول جمهور المسلمين، وبهذا يحصل الطعن في حجية الإجماع نفسه.
أما علة التي حملت الظاهرية لمنع حجية الإجماع، إن صح ما ذكره الأخ علة، فليس كلامنا في العلل، بل في النتيجة، فالنتيجة: أن حجية قول التابعين لم تحصل إلا بقول الجمهور، وهذا هو المطلوب) *.
وهكذا فإن الطعن في حجية قول الجمهور، بالعموم، يفضي إلى إبطال حجية الإجماع.
فهذه الدلائل تبين منزلة قول الجمهور من الدين، وأنه ليس من السهولة الاستخفاف به، أو تجاوزه، أو الإعراض عنه لقلة، وهذا كله فيما لو تحقق في الجمهور الأوصاف التالية:
1 - الإمامة في الدين، فيكون أفراده أئمة يشار لهم بالعلم، والإيمان، والاتباع.
2 - أن يكون قولهم مبنيا على نص ثابت.
والشرط الثاني تحصيل حاصل؛ إذ لا يتصور أن يُجمع جمهرة من أهل العلم والإيمان، المتبعين غير المبتدعين: على الحكم في مسألة، دون أن يكون لهم مستند ثابت نصا.
* * *
- استثناء من العموم:
لو فرضنا جمهورا هم أقل في العلم والإيمان، إزاء قلة هي أكثر علما وإيمانا، ففي هذه الحال يقدم قول القلة، وهذا في مثل حال الخلفاء الراشدين، المنصوص عليهم بالاتباع: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. فهؤلاء ليس مثلهم أحد في الأمة، خصوصا الشيخين، وفي هذا جواب على من استدل بهم، كونهم أصابوا الحق في مسائل، وهم أفراد، كقصة أبي بكر مع المرتدين، وعمر مع أسارى بدر.
* (قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ". فهذا نص، وقد اعترض الأخ بقوله:
"قول الخلفاء ليس أمراً لازم الاتباع مع أنه جاء النص باتباع قولهم وسنتهم، وهذا ابن عمر يخالف الشيخين في متعة الحج فينكر عليه الناس فيقول لهم قولته المشهورة: (توشك تنزل عليكم حجارة من السماء) فلم نسمع أحداً يحتج عليه بحث النبي صلى الله عليه وسلّم على اتباع سنة الخلفاء الراشدين، فكيف بمن يحتج بقول الجمهور؟! "
أقول: هو ابن عباس، وليس بابن عمر.
ثم إنه قد جاء أن عبد الله بن الزبير أجابه بقوله: قد كان أبو بكر وعمر أعلم منك برسول الله .. !!.
ثم إذا تعارض الحديث وقول الصحابي، فتقديم الحديث أمر لا يحتاج إلى جدل.
ومع ذلك: فإن الثابت أن أبا بكر وعمر إنما كانا يريان ذلك على سبيل الأفضلية لا الوجوب) *.
ويقال في هذا أيضا: إن الردة كانت نازلة، فاجتهد أبو بكر، واعترض عمر، وتوقف آخرون
* (ظاهر الآثار أن المعترض كان عمر، فلا أدري كيف قيل إن جمهور الصحابة كان معارضا لأبي بكر؟!!) *،
فلما ظهر لهم رجحان رأي أبي بكر ساروا معه، وليست هذه كالمسائل التي استقرت أحكامها وكلام العلماء فيها، فالنوازل يكون فيها الخلاف ابتداء، حتى تتحرر في الأذهان، وتنحل الشبهات، فإذا اتخذ أهل العلم مواقفهم، بعد الدراسة، فعندها يبتدء النظر في جمهورهم، والاحتجاج بهم.
ومثله رأي عمر في أسارى بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن على رأي عمر، حتى نزل الوحي، فحسم الأمر، فاستقر الحكم.
¥