ـــ أمّا مسألة أيّهما أفضل المسحُ على الخفّين أو ما يقوم مقامهما أم غسل القدمين؟
فإنّ الجمهور على أنّ الغسل أفضل. وقال الحنابلة في أحد أقوالهم المسحُ أفضل. وأَعْدَلُ أقوالهم هو قول الإمام ابن تيمية: ". . ولا يشرع له أن يلبس الخفّين لأجل المسح، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته، فهل الأفضل أن يمسح عليهما، أو يخلعهما، أوكلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: والصّواب أنّ المسح أفضل، اتّباعاً للسنّة. انتهى الفتاوى ج26 صـ94
والحق أنّ كلام شيخ الإسلام جميلٌ جدّاً، لأنّه وَضَعَ النّقاط على الحروف كما يقولون، فبيّن أوّلاً أنّه لا يشرع لبسهما لأجل المسح، وهذا أمرٌ مهم جدّاً يجب أن يكون واضحاً في أذهان الذين يأخذون بكلام شيخ الإسلام و لكن من آخره! ثُمَّ بيّنَ رحمه الله أن مَنْ لبسهما لحاجة؛ وانْتَبِه لدقّة الكلام؛ فالأفضل له أن يمسح عليهما اتّباعاً للسنّة.
ـــ إننا إذا أنعمنا النّظر وجدنا الأمر واضحاً. أليس الغسل عزيمة، أليس المسح رخصة؟ فكيف يصحّ أن نقول إن الرّخصة أفضل من العزيمة؟! وقد مرّ معنا آنفاً أن حكم العزيمة يبقى سارياً مع وجود الرخصة، وأن المرءَ مخيّرٌ. و لذلك كان الصحابة يفتون الناس بالمسح على الخفّين وهم في خاصّة أنفسهم لا يمسحون بل يَنزعون أخفافهم و يتوضّؤون، كما روى ابن المنذر في الأوسط عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أنّ عُمَرَ نزل بوادٍ يقال له وادي العقارب فأمرهم أن يمسحوا على خفافهم وخلع هو خفيه وتوضأ وقال: (إنما خَلعت لأنه حبب إليَّ الطهور).
وعن أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب أنه كان يأمر بالمسح على الخفين ويغسل قدميه فقيل له كيف تأمرنا بالمسح وأنت تغسل فقال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ويأمر به ولكن حُبِّبَ إليَّ الوضوء).
وعن صدقة بن يسار قال: سمعت ابن عمر يقول: (إني لمولَعٌ بغسل قدمي فلا تقتدوا بي). الأوسط لابن المنذر (1ـ 439) وهذه الرّوايات رجال أسانيدها كلّهم ثقات.
فلو كان المسح أفضل لما تركه هؤلاء الصّحابة الكبار وعدلوا عنه إلى الغسل. وقد بيّن القائلون بأفضلية المسح أنهم استحبّوا ذلك لأنّ فيه مخالفة أهل البدع الذين يرفضون هذه الرخصة النّبويّة.
وقد روى حنبَلٌ عن أحمدَ أنه قال: " كُلُّهُ جائزٌ، المسح والغسْل، ما في قلبي مِنَ المسح شيء، ولا من الغسل ".
والحديث كما مرّ معنا " إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه "
والمقصودُ من البحث في مسألة رخصة المسح وأيهما أفضل الغسل أم المسح، هو بيان حقيقة هذه الرخصة، لأنّ غياب حقيقتها عن أذهان الكثير من الناس جعلهم يُسيؤون استخدامها، فهم يلبسون الخف لأجل أن يمسحوا عليه، هروباً من الغسل ويظننون أن ذلك هو الأفضل! ولأوضّح الأمر أكثر سأضرب مثالاً: إن رخصة الإفطار للمسافر ثابتةٌ بنصِّ القرآن، فهل يُشرَعُ للمسلم إذا حلَّ شهر رمضان وكان في الصيف، أن يُنشئ سفراً ليفطر ولا يصوم، أخذاً بالرّخصة، ثم يقول العمل بالرخصة أفضل، وسأقضيه في الشّتاء! هل يكون الأخذُ بالرّخص في الشّرع هكذا؟
ـــ بقيت مسألة أحبّ أن أشير إليها وهي المسح على الجوارب التي يلبسها النّاس في أيّامنا هذه، وهي كما علمتَ لا يجوزُ المسحُ عليها عند كل من أجاز المسح على الجوربين الثخينين اللذين يمكن المشي فيهما، إذ لا نصَّ يُجيزُها و لا يمكن قياسها على ما رُخّص فيه، فهي رقيقة ولا يمكن المشي فيها.
ــ فإنْ قال أحدهم يمكنني المشيُ في هذه الجوارب، قلنا له: فما هي الجوارب التي لا يمكن المشي فيها؟
ولذلك فإن شرط إمكانِ المشي فيها إنما المقصود منه أن تكون في معنى الخفّ.
ــ ولكن وانطلاقاً من القاعدة الشرعيّة في رفعِ الحرج عن الأمّة المسلمة، وقياساً على جواز المسح على الجبائر، يمكننا القول: إن الرّجُلَ المُسِنّ ــ مثلاً ــ إذا لبس هذه الجوارب على طهارة وكان يصعُب عليه أن ينزعها للوضوء؛ وذلك إمّا لألم في ظهره أو رقبته أو لضعفٍ في ذراعيه أو خشي الإصابة بالبرد والتّأذّي منه؛ فله أن يمسح عليها.وكذلك إذا توضّأ رجلٌ ثمّ لبس جوربيه وحِذَاءَه ثمّ أدركَتْهُ الصّلاة و هو في مكان يصعب عليه الوضوء فيه على وجهٍ كامل وضاق عليه الوقت، فله أن يمسح على جوربيه ونعليه (الحذاء) ثمّ يصلّي فيهما والله أعلم.
وخلاصة القول:
1ــ المسحُ على الخُفّين سُنّةٌ ثابتة ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2ــ المسحُ على الجوربين لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3ــ المسحُ على الجوربين والنّعلين صحّ عن بعض الصّحابة.
4ــ حجّةُ القائلين بالمسح على الجوربين صريحُ القياس على الخفّين.
5ــ الجَوْرَب يكون من جلد أو صوف أو قطن، ويلبس وحده، أو مع النّعلين.
6ــ شرط المسح على الجوربين أن يكونا ثخينين و يمكن المشي فيهما.
7ــ المسحُ يكونُ على الجوربين والنعلين معاً.
8ــ لا يجوزُ المسح على النعلين وحدهما.
9ــ المسحُ على الجوربين رخصةٌ عند الحاجة.
10ــ الجواربُ التي رُخّصَ المسحُ عليها هي غيرُ الجوارب التي يلبسها الناس في أيّامنا هذه.
11ــ الرخصةُ في المسح هي لرفع الحرج و المشقَّة. ولا مشقة في نَزْعِ الجوارب
المعروفة اليوم، إذ بحركة بسيطة يمكن نزعها.
12ــ يجوزُ للمريض المُسِنّ أو لِمَنْ يَصْعُب عليه نزعُ الجوارب لمرضٍ أن يمسح عليها.
كما يجوزُ للمضطر أن يمسح على جوربيه وحذائه ويصلّي فيهما.
والحمدُ لله ربّ العالمين.
كتبه: د. خلدون مكيّ الحسني دمشق في 16 من ذي الحجّة 1425
¥