الباجي في بداية رحلته إلى المشرق كان مقلاً، لأنه لا يزال طالباً للعلم، إضافة إلى هذا أنه نشأ في أسرة فقيرة في الأندلس، لذا لجأ إلى العمل أثناء فترة طلبه، وبخاصة في مكة وبغداد، ولكنه بعد أن قطع شوطاً في العلم وانتقل إلى حلب واتصل بأميرها أبي العلوان ثمال بن صالح الملقب بمعز الدولة وأصبح قاضياً وله حلقة درس، يقرئ فيها صحيح الإمام البخاري، صلح حاله، وعمت شهرته حقاً بعد أحد عشر عاماً من رحلته، وعاد إلى الأندلس في العام 439هـ أي بعد سنتين من دخوله حلب.
3 - اتصاله بأولي الأمر:
لقد بدأ اتصاله بأولي الأمر بعد فترة قصيرة من عودته من رحلته، حيث سمع بذكره حكام الأندلس من ملوك الطوائف، إذ كان التنافس بينهم في كل مرافق الحياة على أشده، ومن صنوف تنافسهم هذا اجتذابهم للعلماء مقلدين خلفاء بني أمية في الأندلس، وخلفاء بني العباس في المشرق، وقد دفعته الفرقة والكراهية التي كانت تخيم على ملوك الطوائف في الأندلس، كي يقوم بينهم مصلحاً، ولكن جهوده الخيرة تلك، كانت أشبه بصرخات في مقبرة أو في واد سحيق، فما أوقد شمعة واحدة في هذا السبيل الا وتوافر من يطفئها، فنفض يده منهم، لأنهم عظام ناخرة، وأطلال بالية داثرة، لا فائدة ترجى منهم. ويبدو أن صداقته لملوك الطوائف قد جرّت عليه الاموال، إذ قبل جوائزهم وصلاتهم، فمات عن مال وفير.
ولنا الآن أن نتساءل عن تلك النزعة التي كانت سبباً في كراهية ملوك الطوائف في الاندلس للباجي؟
لقد مشى الباجي بين ملوك الطوائف وهدفه الاول والاخير توحيد هؤلاء الملوك حتى يتمكنوا وبمساعدة إخوانهم المرابطين في المغرب من الوقوف في وجه أعدائهم في مملكة قشتاله، وقد تحمل في سبيل هذا المبدأ الكثير، ولا أستبعد أن يكون لبعض ملوك الطوائف دور في تشويه صورة الباجي، لأن دعوته إلى وحدتهم تكشف حقيقة المتخاذلين منهم والرافضين للجهاد، فقد كانوا يقدمون له الهدايا ويضخمون خبرها بين الرعية حتى يكثر حوله الكلام والشبهات فينثني عن مقصده، وقد كانت تمر بالباجي لحظات فيندم على إضاعة هذا الوقت بين هذه العظام الناخرة، فينصح ولديه بتجنب صحبة الرؤساء ما أمكنهما ذلك، فان البعد عنهم أفضل من العزّ بقربهم، فصاحب السلطان خائف لايأمن، وقد كاد في نهاية المطاف أن يقنع عددا من ملوك الطوائف بضرورة الوحدة مع زعيم المرابطين، إلا أن يد المنون سارعت في اختطافه قبل تحقيق مأربه.
4 - المهن التي امتهنها:
* التدريس: حاز الرئاسة بالأندلس من خلال مهنة التدريس، وتفقه عليه خلق كثير، وممن تفقه عليه أبو بكر الطرطوشي والقاضي ابن شبرين، والحافظان أبو بكر اليابري، والصدفي، وكذلك أحمد بن سعيد بن خالد اللخمي، وابن خيره، ويحيى بن عيسى بن خلف، وابنه أحمد، وغيرهم.ومما يحق للباجي أن يفتخر به، أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر ابن عبد البر، والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي، وناهيك بهما، وهما أسن منه وأكبر.
كان يدرس عدداً من الكتب التي ألفها، ومن هذه الكتب الآتي:
1 - كتاب المنتقى، شرح الموطأ انتقاه ولخص به كتابه الكبير الجامع "الاستيفاء شرح الموطّأ.
2 - كتاب المعاني شرح الموطّأ.
3 - الإشارات في أصول الفقه.
4 - الحدود في الأصول.
5 - الإيماء في الفقه.
6 - مختصر المختصر في مسائل المدونة.
7 - اختلاف الموطآت.
8 - التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح.
9 - التسديد إلى معرفة التوحيد.
10 - أحكام الفصول في أحكام الأصول.
11 - شرح المنهاج.
12 - سنن الصالحين وسنن العابدين.
13 - سبيل المهتدين.
14 - فرق الفقهاء.
* القضاء: كان يتولى قضاء مدن صغيرة في الأندلس كقضاء مدينة أريوله.تولى قضاء حلب لمدة عام في المشرق.
هناك مهناً أخرى امتهنها الباجي، كمهنة كتابة الرقاع للمحتاجين، وحراسة الدروب ليلاً في بغداد.
5 - محنة الباجي:
أساء أبناء عصر فهمه لمسالة فقهية، فاتهم بالزندقة والإلحاد، وهو الإنسان المؤمن، واتهم بالجهل وهو الإنسان العالم.
¥