والكلام هو: ((قال بن حزم رحمه الله في المحلى (فَمَنْ عَجَزَ لِجَهْلِهِ أَوْ عَتَمَتِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ هَذَا فَلاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولَ بِلِسَانِهِ حَسَبَ طَاقَتِهِ بَعْدَ أَنْ يُفَسَّرَ لَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَكُلُّ دِينٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ.))) ..
الكلمة التي لا بد من تصحيحها هي (عتمته) إلى كلمة (عجمته) ..
فالإمام يتكلم عن العاجز إما للجهل وإما لعجمة لسانه، وشاهده (ويقول بلسانه حسب طاقته بعد أن يفسر له .. ) ..
أما النص هذا فليس فيه جواز العمل بالظن سواء كان راجحاً أو غالباً أو غيرها ..
فلا يكلف الله نفساً إلى وسعها ومن عمل بوسعه لا يسمى عاملاً بالظن ..
والخلاف واقع بين الجمهور وأهل الظاهر في جزئية قل من يدركها ..
وهي ..
هل يجوز العمل بالظن ونسبته إلى الشرع وإلى الله تعالى وإلزام الناس به أو لا يجوز .. ؟
فهنا يحصل الخلاف لذلك يقول أهل الظاهر لا يجوز الحكم بالظن في فتيا أو قضاء أو حكم بين الناس في كل شيء ولا يحل نسبته إلى الشرع ..
ولم يرد نص من الشريعة بجواز العمل بالظن البتة ..
وقد يحكي البعض ما أمرنا به في قبول شهادة الشهود مع أننا لا ندري صدق وكذب الشاهد ونحكم بناء على ظننا ..
وهذا خطأ ..
لأن الحكم بناء على الشهود أمر قطعي ثبت بالنص الصحيح باتفاق الجميع ..
ولكن كون هؤلاء كذبوا أو صدقوا فلا يعنينا هذا ..
لأن الله تعالى أمرنا أن نحكم بناء على ظهور البينة وتحققها دون التفات إلى صدق المخبر والشاهد وكذبه ..
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم ذكّر الشهود بالله أو قال ..
من قضيت له فإنما أقضي له بقطعة من نار أو كما قال بأبي هو وأمي ..
فمن كان ألحن بحجته من صاحبه وقدم الشهود وهم يكذبون فيما شهدوا فلم يكلفنا الله الحكم إلا بتحري البواطن ..
فالشهادة أمر ..
وصدق الشهود أمر آخر ..
لذلك وجدنا الذي ينهى ويخوف الشاهد إن أراد الكذب بتحذير الشارع له بأنه إن كذب فتلك شهادة زور وهي كبيرة من الكبائر ..
وكذلك الصلاة إلى القبلة ونحوها ففرق بين أن نؤمر بأن نصلي إليها مع التحري وبلوغ الجهد في ذلك التحري وبين إصابة عين الكعبة ..
وكذلك ..
فإن الشريعة منعت القول على الله بالظن مطلقاً ..
فمنعتنا من أن نقول هذا حلال وهذا حرام بلا برهان من الله تعالى ..
لذلك لو رجعنا إلى كثير من الأئمة وجدناهم يقولون عن الحرام: نكره هذا ولا نحبه والاولى تركه خوفاً من أن يقولوا هذا حرام بلا يقين فيقعوا بما حذرهم الله تعالى منه ..
وكذلك كانوا يقولون في الحلال نحب هذا والأولى هذا ويعجبني كذا ..
كذلك هذا وارد عن الصحابة رضي الله عنهم ..
فلم يقولوا بالظن ثم نسبوه إلى الله تعالى ولا إلى الشرع ..
بل تبرأ المفتي منهم من هذا القول ونسبه إلى الشيطان إن كان خطأ ..
ولم يلزم أحد من الصحابة الناس ولم يقل أنه شرع يجب الالتزام به إن حكم بالظن ..
ولو رجعنا إلى أخبارهم لعلمنا هذا علم يقين ..
وأقرب من ذلك كله فعل النبي صلى الله عليه وسلم ..
فهو أعلم خلق الله بكتاب ربه ودينه فلم يقل قولاً بناء على الظن ..
لذلك فأهل الظاهر يعملون كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يحكموا بشيء أو على شيء بناء على الظن ..
وقد يحكم الصحابي بالظن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا ينكر عليه ويوجهه للحكم الصحيح ..
وهذا مما أجمعت عليه الأمة من أن المجتهد لا ينكر عليه وإن أخطأ ..
بل له أجر واحد إن أخطأ ..
ولو رجعنا لأخبار الصحابة لما وجدنا قول أحدهم بالظن ينسبه إلى الله وشرعه ..
فلا يحل عند أهل الظاهر نسبة هذا الظن إلى الشرع بل ينسب إلى قائله ولا يلزم به أحد من الناس ..
وكذلك ..
ما يطلق عليه ظن راجح ..
إن كان هناك ظن وظن فاحتار الناظر فيهما ثم رجح ظن منهما بناء عن برهان فلا يسمى المرجح بالبرهان ظن راجح بل هو يقين وقطع ..
وكذلك ما يطلق عليه ظن غالب ..
فنحن بين أمرين إما علم حقيقي وإما علم ظاهر وهو نحو الشهادة وغيرها ..
ولو كانت هذه الظنون يأثم مخالفها لأثم أتباع المذاهب كلها ..
لأنه ليس هناك مذهب إلا وهو يخالف غيره بناء على الظن ..
وإن قالوا اجتهاد هذا لا يلزم اجتهاد آخر ..
قلنا وكذلك القول بالقطع واليقين فهو عمل بالثابت وترك المختلف فيه والمنهي عنه فلا محل للإنكار ..
فالأمة كلها أولا تتفق على القطع واليقين من النص ثم يحصل الخلاف بعد ذلك بالظنون ..
فهل نكتفي بالقطع هذا أو لا هنا يحصل الخلاف ..
فالظاهرية وقفوا وقالوا نكتفي بما ظهر من النص والنصوص الأخرى باليقين ..
وأهل الرأي قالوا بالتأويل والصرف ونحوها مما هو ظن ..
فانظر في كل مسألة ترى القطع فيها أولاً على أنها من الله تعالى ودلالتها كذلك ثم يجتهد كل طرف في الزيادة على ذلك إما باليقين وإما بالظن ..
وهي طرائق ومناهج ..
والله تعالى الموفق ..
¥