تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ورفض التابعون الجواب عما لم يقع، كأن فى الافتراض نجامة، أو رجمًا بالغيب، أو تحديا للمستقبل، مخافة أن يحلوا حرامًا أو يحرموا حلالاً دون إلمام تام بالظروف، وكان الشعبى يقول: احفظ عنى ثلاثًا. منها: إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها، فلا تتبع مسألتك أرأيت، فإن الله تعالى قال فى كتابه: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الفرقان: 43]. (6) وسأل عبد الملك بن مروان الإمامَ ابن شهاب الزهرى، " فقال الزهرى: أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فدعه، فإنه إذا كان أتى الله بفرج " (7)

ومن جانب آخر نجد أن الصحابة الكرام سألوا رسول الله ? مسائل عما لم يقع لا تكاد تحصى، وبين لهم أحكامها بالسنة، مثلما فى الحديث المتفق عليه عن رافع بن خديج أنه سأل النبى فقال: إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مدى، أفنذكى بالليطة؟ (8) فقال النبى ?: " ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكل، إلا ما كان من سن أو ظفر ". وروى الترمذى أن رجلاً سأل رسول الله ? فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم. قال: " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم ". وفى صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: " كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى .... "، وفيه سأل حذيفة: "فما أفعل إن أدركنى ذلك؟ " وكان النبى ? فى أحيان كثيرة يخبر بداية بما سيقع، ويدل على العمل المطلوب إزاءه.

أبو حنيفة رائد الفقه الافتراضى

وحين جاء أبو حنيفة توسع فى تفريع الفروع على الأصول، وافتراض الحوادث التى لم تقع إذ كان يرى أن وظيفة المجتهد تمهيد الفقه للناس، والحوادث إن لم تكن واقعة زمن المجتهد، لكنها ستقع لاحقًا. وكان له جرأة على توليد المسائل وافتراضها، وأغرق فى تنزيل النوازل، ولم يتردد عن أن يستعمل الرأى فى الفروع قبل أن تنزل، وتشقيقها قبل أن تقع، والكلام فيها، والحكم عليها قبل أن تكون، فاتسع الفقه الافتراضى النظرى حتى بلغ ذروته، وصار مستوعبًا للحوادث المتجددة والمستبعدة، ولذلك حين سئل رقبة بن مصقلة عن أبى حنيفة قال: " هو أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما قد كان ". (9)

وتبع أبا حنيفة على ذلك الافتراض الفقهى مدرسته، تستعرض مسائل الفقه استعراضًا شاملاً، وتجيب على فروضها الإجابات الضافية، فلم تكتف بما يحدث من أحداث، بل كأنها فرحت بما عندها من وسائل الاجتهاد، وأدوات القياس، والقدرة على التخريج، فأباحت إثارة المسائل الفرضية، تبدى فيها رأيها، وتستعمل قياسها، حتى فرضوا المستحيل وبعيد الوقوع، مثل: إن قال رجل لامرأته: أنت طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة، فما الحكم؟ ولو قال: أنت طالق واحدة، بعدها واحدة؟ .. ونحو ذلك. كأن الأمر صار مرانًا عقليًا كمسائل الحساب والجبر والهندسة، ومرنوا على ذلك مرانًأ عجيبًا، فكان لهم قدرة فائقة على قياس الأمر بأشباهه، واستخراج العلل والأسباب، ووجوه الفروق والموافقات، وأكثروا الفروض فى أبواب الرقيق والطلاق والأيمان والنذور، كثرة لا حدَّ لها.

ومن هنا عرفت مدرسة أبى حنيفة بمدرسة (الأرأيتيين)، أى: الذين يفترضون الوقائع بقولهم: (أرأيت لو حصل كذا؟ أرأيت لو كان كذا؟) فقد سأل مالكًأ -رحمه الله- بعض تلاميذه يومًا عن حكم مسألة فأجابه، فقال تلميذه: أرأيت لو كان كذا؟ فغضب مالك. وقال: هل أنت من الأرأيتيين؟ هل أنت قادم من العراق؟ (10)

منهج أهل الحديث فى الفقه الافتراضى

أما أهل الحديث فقد قاوموا الاتجاه إلى افتراض ما لم ينزل، وقرنوه بالأغلوطات والمعضلات التى يذم من يشتغل بها، وعدوا الاشتغال بذلك والاستغراق فيه تعطيل للسنن، وبعث على الجهل بحقيقة الشريعة وأحكامها، وترك الوقوف عليها والعمل بها، ومدعاة للتكلف فى الدين، وهو مذموم فى القرآن الكريم بقوله: {قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص: 86]، واستدلوا لمذهبهم بنهى النبى ? عن الأغلوطات، ونهيه عن القيل والقال وكثرة السؤال، وبما رواه أبو داود فى مراسيله أن النبى ? قال: ((لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لا تفعلوا، أوشك أن يكون فيكم من إذا قال سدد أو وفق، فإنكم إن عجلتم تشتتت

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير