تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بكم الطرق ههنا وههنا)). واستدلوا أيضًا بكثير من الآثار، منها ما جاء عن ابن عمر قال: " لا تسألوا عما لم يكن، فإنى سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن " (11) وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سئل عن شىء من المسائل المحدثة المتولدات التى لا تقع يقول: " دعونا من هذه المسائل المحدثة ". (12) وروى أسد بن الفرات بعد أن قدم إلى المدينة على مالك، أن ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك كانوا يجعلونه يسأله، فإذا أجاب يقولون قل له: فإذا كان كذا؟ فضاق علىَّ يومًا، فقال لى: " هذه سليسلة (13) بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق ". (14)

وعلى هذا الطريق كان فقهاء أهل الحديث يحذرون من الافتراضيين، ويطلقون عليهم تسميات عدة مثل: (الآرائيين)، (الهداهد)، (الأرأيتيين)، (أصحاب أرأيت)، وينهون تلاميذهم عن مجالستهم والأخذ عنهم واتباع طريقتهم، قال أبو وائل: " لا تقاعد أصحاب أرأيت "، وقال الشعبى: "ما كلمة أبغض إلىَّ من أرأيت ". وقال الشعبى أيضًا: " إنما هلك من كان قبلكم فى أرأيت ". (15)

منهج جديد للفقه الافتراضى

ومع هذا الاختلاف بين المدرستين فإن عوامل كثيرة قربت بين أهل الرأى وأهل الحديث مثل الجدل والمناظرات التى كانت تقوم كثيرًا على فرض الفروض والحكم عليها بين الفريقين، ومثل الرحلة فى طلب العلم، وأخذ بعضهم عن بعض، فالشافعى مثلاً أخذ عن محمد بن الحسن، وهذا الأخير أخذ عن مالك، وأحمد بن حنبل أخذ عن محمد بن الحسن، ولقى أسد بن الفرات صاحبى أبى حنيفة: أبا يوسف ومحمدًا، وسمع منهما الفروع على الطريقة العراقية، فمزج الفقهين معًا فى "المدونة " مثلما فعل محمد بن الحسن فى المدينة بمزج فقه مدرسته العراقية بفقه الحجازيين. ومن هنا بدأ الشافعية والمالكية فى الافتراض، وصار كل الفقهاء يغوص بحثًا عن المعانى، وأكثروا البحث فيما وقع وما لم يقع، وتناظروا فى عويص المسائل، وتوسعت كتب الفقه فى تناول ما وضعه الحنفية من افتراضات بالبحث والمدارسة.

ويبين التاريخ ظهور غلاة من الجانبين خالفوا الحق وجمد فكرهم: فمن أتباع أهل الحديث من سدَّ باب المسائل حتى قل فهمه وعلمه لحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه. ومن فقهاء أهل الرأى من توسع فى توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع فى العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وبكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه، حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء. ويقترن هذا غالبًا بنية المغالبة وطلب العلو، والمباهاة وصرف وجوه الناس. (16)

ومن هنا ندعو إلى منهج جديد فى الفقه الافتراضى يقوم على الأسس التالية:

1 - ألا تكون المسألة المفترضة مما يستحيل وقوعه، بأن تكون متصورة الوجود فى نفسها، حتى يمكن تصور تحققها ووقوعها، فلا يصح الافتراض لما يستحيل عقلاً ولا طبعًا، نحو الجمع بين المتضادين، فإنه بعيد عن تكليف الشارع وحكمته، وهو قبيح ومحال عقلاً عند الحنفية، وعند أهل الحديث هو محال عقلاً، لا أنه قبيح. (17) ويستثنى من ذلك ما يظن أنه محال دون بينة ولا قرينة مما يختلف فى تقديره أهل العلم. وكم من أشياء وقعت، ظنها السابقون محالات أو لم ترد لهم على بال، مثل الاستنساخ، والكشف عن الجينوم البشرى، وتحديد جنس الجنين فى بطن أمه، واختراع الكمبيوتر والإنترنت وغيرها كثير!

2 - إن كان فى المسألة نص من كتاب الله، أو سنة عن رسول الله ?، أو أثر عن الصحابة الكرام، لم يكره الكلام فيها، بل قد يجب بيانها بقدر الحاجة إليها.

3 - إن لم يكن فى المسألة نص ولا أثر، وكانت محتملة الوقوع، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون فيها على بصيرة إذا وقعت، استحب الجواب عنها، أو صار واجبًا بحسب الحاجة، ولاسيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بالمسألة نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى. (18)

ومن المسائل المفترضة التى يحتاجها الناس: حكم المرأة تموت، وليس معها نساء، ولا ذو محرم، ولا زوج. وحكم الرجل بموت ليس معه إلا نساء. والحكم فيهما التيمم كما ذكره مالك فى الموطأ. ومنها حكم من قدر على بعض الطهارة وعجز عن الباقى، إما لعدم الماء، أو لمرض فى بعض أعضائه دون بعض، فإنه يأتى من ذلك بما قدر عليه، ويتيمم للباقى. سواء فى ذلك الوضوء والغسل. ويطرد هذا فى العبادات، فإن من عجز عن فعل المأمور به كله، قدر على بعضه، فإنه يأتى بما أمكن منه لقول الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن 16]، ولحديث النبى ?: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .. )). وأما من فاته الوقوف بعرفة فى الحج، فهل يأتى بما بقى منه من المبيت بمزدلفة ورمى الجمار أم لا؟ بل يقتصر على الطواف والسعى، ويتحلل بعمرة؟ على روايتين عن أحمد، أشهرها أنه يقتصر على الطواف والسعى؛ لأن المبيت والرمى من لواحق الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمره الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام، وبذكره فى الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به من لا يقف بعرفة، كما لا يؤمر به المعتمر. (19)

(1) تاريخ بغداد: الخطيب البغدادى، (13/ 348).

(2 - 4،7) جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر، ص (2/ 142 - 143).

(5) إعلام الموقعين: ابن القيم، ص (1/ 47).

(6) جامع بيان العلم وفضله (2/ 147).

(8) الليطة: الفلقة من القصب.

(9) جامع بيان العلم وفضله (2/ 145).

(10) السنة ومكانتها فى التشريع: د. مصطفى السباعى، ص 403.

(11) جامع بيان العلم وفضله (2/ 139).

(12) جامع العلوم والحكم: ابن رجب، ص 88.

(13) سليسلة: تصغير سلسلة، والمقصود بها هنا أن الأسئلة الافتراضية كحلقات السلسة يتصل بعضها ببعض، وتتابع بلا نهاية.

(14) أبو حنيفة: عبد الحليم الجندى، ص 234.

(15) جامع بيان العلم (2/ 146،147)

(16) جامع العلوم والحكم، ص 88.

(17) وانظر ميزان الأصول فى نتائج العقول: علاء الدين السمرقندى، ص 167 وما بعدها.

(18) إعلام الموقعين: (4/ 193).

(19) جامع العلوم والحكم، ص 92.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير