ومن ناحية أخرى فقد اتسم تطور المجتمعات الإسلامية، بل والمجتمعات العالمية ككل، من القرن الثامن الهجري إلى القرن الثالث عشر بالبطء، الأمر الذي تسبب في بطء التفكير، وعدم تجديد الوسائل العلمية القديمة، لعدم الاحتياج إلى ذلك، بحيث – ونظرا لركود المجتمعات – تباطأ الفكر الاجتهادي في الفقه الإسلامي. ونظرا لدخول الاستعمار الغربي على المجتمعات الإسلامية، وارتفاع الحواجز الحضارية بذلك بين الشرق والغرب في وقت كان الغرب في أوج منحنى الازدهار والشرق بالعكس، فقد فاض فيضان الحضارة الغربية بكل متغيراتها وتطورها وفلسفتها وقانونها إثر الثورات الصناعية والتحررية بأوروبا بعد القرن العاشر الهجري – السادس عشر الميلادي – على المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي شكل ما يصح أن يسمى: "الصدمة الحضارية"، والتي احتاجت إلى قفزة نوعية في الفقه الإسلامي وسائل ومقدرة على الاستنباط.
فكان هذا التغير الطاريء على المجتمع الإسلامي بمقابلة البطء الفكري الذي حتمه بطء التطور سابقا، وطبقا للنظرية النسبية في التسارع؛ سببا في إبراز الفقه والفكر الإسلامي في أول وهلة بالجمود والتحجر، وإبراز الفقهاء والعلماء بصورة غير المواكب للعصر. الأمر الذي كان السبب الثاني لبزوغ دعوات الاجتهاد، وادعاء انقطاعه منذ زمن كذا وكذا، وهو في الحقيقة لم ينقطع!.
وقد صاحب هذه "الصدمة الحضارية" دخول المطابع للعالم الإسلامي، وطباعة مجموعة من الأصول التي كانت تعتبر مفقودة منذ قرون، وإحياء تراث مجموعة من المجتهدين المعتمدين على الجذور الخمسة من أصول التشريع، الأمر الذي فتح سوقا توافقت مع مقتضيات العصر لدعاة الاجتهاد على الطراز الأول، والاستنباط المباشر من الكتاب والسنة دون الاعتماد على نتائج فكر المتأخرين، ومراعاة التدرج التاريخي والفكري والحضاري، بالأخذ بالنظر خصوصية كل مجتمع مجتمع، وشعب شعب.
فتمايز دعاة الاجتهاد إلى:
رجال الشورى: وهم الفقهاء المشاورون الذين يتعرضون للأحكام الشرعية المتعلقة بالدولة خارجيا وداخليا.
مجتهدي قضاء: وهم القضاة المحترفون في استنباط الأحكام الفقهية المتعلقة بالصراعات البينية.
مجتهدي فتيا: وهم العلماء المتصدرون لإبراز الحكم الشرعي في مختلف النوازل الحادثة، والتي لم يتم التطرق إلى الحكم فيها فيما سبق.
وهذه الطبقات الثلاث من المجتهدين لم تنقطع عبر الزمان، وقد قسمها الفقهاء فيما قسموه من مراتب الاجتهاد، تدرجا بين مجتهد الفتيا إلى مجتهد المذهب؛ وهو: الذي يعتمد أصول مذهب معين في استقراء الأحكام الشرعية عبر النصوص الأصلية.
كما تمايز الفقهاء الأثريون: وهم فقهاء من مختلف المذاهب، يتبعون المذهب المعين، مع اطلاع لهم على أصول التشريع من قرآن وحديث وفتاوى السلف، وأصول وفروع؛ فيتبعون ما وردت بذكره النصوص الظاهرة بغض النظر عن موافقة مشهور المذهب أو مخالفته.
دعاة الاجتهاد المطلق: وهم الداعون إلى الأخذ المباشر من معين الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، وهم قلة في كل قرن، واشتدت دعوتهم وعلت في مطالع القرن الرابع عشر الهجري، وهم المقصودون – في العموم – إذا ذكر دعاة الاجتهاد.
وهؤلاء المجتهدون في العصر الحاضر ينقسمون إلى قسمين:
مجتهدين انطلقوا من أصول التشريع الإسلامي، وانبثقوا عن شروط الاجتهاد التي وضعها علماء الإسلام في الماضي والحاضر.
ورجال فقه وعلم تأثروا بالأفكار والفلسفة الغربية، والقوانين الوضعية الحديثة، وانبهروا بها، فحاولوا التوفيق بين الفقه الإسلامي وبين تلك القوانين عن طريق لي أعناق النصوص التشريعية لتتوافق مع تلك القوانين، مختلفين في تدرجهم بالتوفيق بين الأقرب لأصول التشريع الإسلامي، والأقرب لأصول التشريع القانوني والغربي. وفي الغالب هم الذين يطلق عليهم بالتيار السلفي الحديث، من أتباع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
وكيفما كان الاختلاف في الاجتهاد المطلق وإمكانيته وعدمها، فإن الاجتهاد باعتباره أعلى درجات الإبداع والابتكار العقلي؛ يعد في الدرجة العليا من السلم المعرفي العقلي.
¥