انظر مثالا لنقص الاستقراء في كتاب: "الاستقراء" للطيب السنوسي (ص426و445).
والأمثلة حول هذه المسألة أكثر من أن تحصر.
وكل ما أذكره لك من مقترحات من قبل ومن بعد فأصله وأسّه، وشرط إنتاجه الاستقراء لا غير.
فقبل كل تقرير أو تقعيد أو تأصيل- كما ذكر الأستاذ محمود شاكر- لابد من توفر أمرين:
الأمر الأول: جمع المادة من مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرادته تمحيصاً دقيقاً، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذر، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيفٌ جلياً واضحاً، وما هو صحيح مستبيناً ظاهراً، بلا غفلة، وبلا هوى، وبلا تسرع.
الأمر الثاني: التطبيق فيقتضي إعادة تركيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيّدها، باستيعاب أيضاً لكل احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع، ثم على الدارس أن يتحرّى لكل حقيقة من الحقائق موضعاً هو حقُّ موضعها، لأن أخفى إساءةٍ في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليقٌ أن يشوه عمود الصورة تشويهاً بالغ القبح والشناعة.
(أباطيل وأسمار24 - 25 بتصرف يسير)
ولا يخفى على كل من له أدنى إلمام بعلم الأصول أهمية الاستقراء في هذا العلم.
وفي هذا يقول الشاطبي: (وأصول الفقه؛ إنما معناها استقراء كليات الأدلة، حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس). (الاعتصام 1/ 44)
والقاعدة الأصولية بعد الاستقراء قد يظهر فيها الخلل والقصور في الصياغة والتطبيق من ثلاثة أوجه:
- الوجه الأول: من جهة التقعيد والتعميم، فقد تحتاج إلى قيد، أو استثناء، أو عدم الاطراد حسب الأدلة.
-الوجه الثاني: من جهة الأمثلة والفروع المخرَّجة عليها فقد تسلم القاعدة من المعارض النقلي والعقلي، ولكن يبقى مورد النزاع: انطباقها على القاعدة.
- الوجه الثالث: من جهة القاعدة والمثال فكل منهما بحاجة إلى تنقية وتصفية ومراجعة، ومن ثم التحقيق والتقعيد.
إذن، كيف تتم صياغة القاعدة الأصولية بطريقة سليمة من النقض مماثلة لخطاب الشريعة، ومطابقة لمقصدها؟
يتم ذلك بأمور منها:
1 - الاستقراء لنصوص الكتاب والسنة وآثار السلف.
2 - الاحتكام التام إلى أساليب لغة العرب.
فالأول: من جهة الأصل والمستند. والثاني: من جهة الصياغة.
بهذه المحاور نستطيع الوصول إلى بناء قواعد أصولية محكمة، بعيدا عن فراغ التنظير العقلي، والجدل العقيم.
وهنا أؤكّد على ضرورة الاعتماد الكلي على لغة العرب في الاستدلال وبناء الأحكام، لبعد الأصوليين عنها من جرّاء ما علق به من سفسطات المناطقة، وفلسفات المتكلمين.
وفي هذا قاعدة علمية محكمة وهي: أن الشريعة جاءت على مقتضى اللغة في المعاني والأساليب. وهذا يدل عليه النقل والعقل والإجماع.
ولكي يستبين لك الأمر تأمل هذه النقول، وتمعّن فيها، وتدبرها وطبقها على الواقع.
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - (ت:790هـ) نقلا عن المازري: (وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق.
هذا ما قاله المازري. وهو صحيح في الجملة، وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم التزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية). (الموافقات 4/ 338).
وقال أيضًا: (ومنها: أنه لا بد في فهم الشريعة من إتباع معهود الأميين - وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم - فإن كان للعرب في لسانهم عرفٌ مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني، والألفاظ، والأساليب). (2/ 82،64)
وقال أيضًا: ( ... القرآن الكريم ليس فيه من طرائق كلام العجم شيء وكذلك السنة .... إذا حُقق هذا التحقيق سُلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلكُ كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثيراً من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يُفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروجٌ عن مقصود الشارع). (الموافقات 1/ 44)
وانظر للأهمية: "الرسالة" للإمام الشافعي - رحمه الله - (ص:42 - 53).
وهنا سؤال: هل كتب الأصوليين الموجودة الآن ـ خاصة المذهبية المتأخرة من القرن السابع تقريبا ـ تخدم علم الأصول خدمة أوليّة أم تخدم المذهب فحسب؟
¥