ثم كيف تتم الاستفادة منها على الوجه المطلوب؟ وهل هناك فرق بين من كان منهم صاحب رأي وتحرير، وبين من كان همه النقل لا غير؟ وكيف يمكن التمييز بين هذا وذاك؟
يتبع ............
ـ[أبوحاتم]ــــــــ[02 - 02 - 06, 05:05 م]ـ
الثالثة: تقويم الخلاف الأصولي.
موضوع الخلاف في علم الأصول، من المواضيع الشائكة، التي تفتقر إلى التحقيق والتدقيق.
وكثرة الخلاف في مسائل الأصول له علاقة بضعف التصور. وقلة الاستقراء.
وأبرز العوامل في توليد مادة الخلاف في علم الأصول هو ما دخله من علم الأوائل، وتوسيع العبارات وتشقيقها، وبعده عن مصادره وأصوله التي نشأ منها، وأيُّ علم تجافى عن مصدره أصابه النقص بقدر ذلك البعد.
ومما يفعّل الخلاف الأصولي ويدعو إلى تطويره؛ هو النقل لمذاهب الفرق الإسلامية دون الحاجة إليه.
قال الزركشي (ت:794هـ) في مقدمة "البحر المحيط":
( .. ثُمَّ جَاءَتْ أُخْرَى مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ, فَحَجرُوا مَا كَانَ وَاسِعًا, وَأَبْعَدُوا مَا كَانَ شَاسِعًا, وَاقْتَصَرُوا عَلَى بَعْضِ رُؤوسِ الْمَسَائِلِ, وَكَثَّرُوا مِنْ الشُّبَهِ وَالدَّلَائِلِ, وَاقْتَصَرُوا عَلَى نَقْلِ مَذَاهِبِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْفِرَقِ, وَتَرَكُوا أَقْوَالَ مَنْ لِهَذَا الْفَنِّ أَصَّلَ, وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَصَّلَ, فَكَادَ يَعُودُ أَمْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ, وَتَذْهَبُ عَنْهُ بَهْجَةُ الْمُعَوَّلِ, فَيَقُولُونَ: خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ, أَوْ وِفَاقًا لِلْجُبَّائِيِّ, وَتَكُونُ لِلشَّافِعِيِّ مَنْصُوصَةً, وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالِاعْتِنَاءِ مَخْصُوصَةً, وَفَاتَهُمْ مِنْ كَلَامِ السَّابِقِينَ عِبَارَاتٌ رَائِقَةٌ, وَتَقْرِيرَاتٌ فَائِقَةٌ, وَنُقُولٌ غَرِيبَةٌ, وَمَبَاحِثُ عَجِيبَةٌ).
وقال المرداوي (ت:885): ( .. وأغيرهم من أرباب البدع، كالجهمية والرافضة والخوارج والمعتزلة ونحويهم، فلا اعتبار بقولهم المخالف لأقوال الأئمة وأتباعهم، ولا اعتماد عليها ... وقد ذكر الأصوليون ذلك حتى بالغوا، فذكروا بعض مذاهب اليهود والنصارى والسوفسطائية، والسمنية فرقة من عبدة الأصنام، والبراهمة وهم الذين لا يجوزون على الله بعث الرسل، والملاحدة وغيرهم.
وكان شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني يعيب على من يذكر ذلك في أصول الفقه، ويقول: (إنما محل ذلك أصول الدين)، وهو كما قال). (التحبير شرح التحرير 1/ 128 - 129)
هذه النقول مع ما فيها من الفوائد النفيسة، والحقائق المهمة، إلا أن فيها كذلك ما هو بحاجة إلى مراجعة.
وهنا قد يتفق الجميع على وجود هذا الخلل في علم الأصول، وأنه من الدخيل في تقرير مسائله، كالمنطق وعلم الكلام، لكن العيب المتكرر قديما وحديثا هو الانفصال بين النظرية والتطبيق، فمن الصعوبة بمكان الانفكاك عن أسلوب الأصوليين في التأليف والتقرير، ولله در الشاطبي فقد تميز في أسلوبه وتقريره ولم يتأثر تأثرا بينا بمن سبقه.
والخلاف الأصولي بحاجة إلى تقويم من جوانب عدة منها:
أولاً: أصله وحقيقته.
فقد يفتعل الأصوليون خلافاً لا حقيقة له في بعض الأحيان. إما أنه غير موجود في الأصل.
وإما أنه شُقّق من قولين إلى أكثر، أو من أقوال ليس بينها تعارض، إلى أقوال متوازية لا يمكن الجمع بينها. وهذا يَحدُث كثيرا بسبب العجلة في حكاية الخلاف، وعدم تحرير محل النزاع.
ولديَّ مؤشرات وأمارات بأن غالب الخلاف المحكي عن الأئمة ـ ولا سيّما مالك والشافعي وأحمد في علم الأصول ـ (أي: الأدلة) خلاف لا وجود له. وهذا مبني على مقدمتين:
الأولى: أن أصول الفقه هي الأدلة.
والثانية: أن أدلة الأئمة في الفقه واحدة.
فلو قيل: بأنه لا خلاف بينهم في الأصول ألبتة، لم أستبعد ذلك.
وإنما الخلاف بينهم في تخريج الفروع على الأصول فقط. هل هذا الفرع يُخرّج على هذا الأصل أم ذاك؟
فالاستحسان المردود عند الشافعي هو كذلك عند مالك وأحمد.
وعمل أهل المدينة المعمول به عند مالك، معمول به عند الشافعي وأحمد.
والإجماع الذي يردُّه أحمد هو كذلك عندهما، وكذا المرسل.
وكون إمام أكثر في تخريج فروعه على هذا الأصل، لا يعني رده عند الإمام الآخر. ثم من الذي كان يُخرّج الأصول من الفروع؟ لا شك أنهم أصحاب أئمة المذاهب، ألم يختلفوا في نقل الأصل الذي بنى عليه الإمام؟
¥