بلى، فكونهم اختلفوا في أصول الأئمة، أو في جملة من الفروع، هل يقتضي ذلك رد هذا الأصل أم لا؟ لا يلزم منه اختلاف الأئمة أنفسهم في هذا الأصل.
ثم إن من أكثر ما يشعّب الخلاف في الأصول هو تخريج الأصول من كلام الأئمة لا من الأدلة، فينتج عن هذا التخريج تأويل الأدلة بحسب المذهب، كما هو الحال في بعض كتب الأصول من المدرستين، ولهذا نبه العلماء على هذا الخطأ المتكرر.
قال أبو إسحاق الشيرازي (ت:476هـ):
(وينبغي أن تحفظ الأدلة وتحكم الأصول ثم حينئذ تبنى عليها المذاهب في مسائل الاجتهاد، لأن الأدلة هي الأصول والمذاهب تتبعها؛ فينبغي أن نستخرج المذاهب على حسب ما يقتضيه الدليل ولا تنصب الدليل على ما يقتضيه المذهب). (شرح اللمع1/ 162)
ثانياً: منزلته.
قيمة الخلاف ومنزلته مما يساعد على عدم تصعيده، بل وعدم حكايته إن تبيّن ضعفه.
وكتب الأصول خاصة المتأخرة منها مرتع خصب للأقوال التي ليس لها خطام ولا زمام، فقد تجد قولاً مشهوراً في كتبهم، ولا تجد له قائلاً، ولا أصلاً، ولا سنداً. وهذا يدلك على بعد هذا العلم عن أصوله ومصادره الحقيقية.
فمثل هذه الأقوال قد يبنى عليها خلاف في كثير من مسائل علم الأصول، وقد لا يُتنبه أن هذا الخلاف من قبيل الشاذ أو الضعيف.
لهذا كانت معرفة الخلاف ومنزلته في علم الأصول أمرًا جديرًا بالاهتمام.
ثالثاً: ثمرته.
ومما يجعل للخلاف قيمة ومنزلة أن تكون له ثمرة، فالثمرة هي الميزان للخلاف، يقوى ويستمر بحسبها، فإبراز ثمرة الخلاف، وقيمة هذه الثمرة، وأثرها في التطبيق، مما يعطي أهمية لهذا الخلاف، وعلم أصول الفقه غني بهذا النوع من الخلاف. وتعيين الثمرة للخلاف الأصولي كثيرا ما تتجاذبها الأقوال، لهذا يحسن التريث في الحكم على خلافٍ ما بأنه عديم الثمرة، إلا ما كان ظاهراً.
فقد يكون للخلاف ثمرة لم تتبين لك إلا مع طول التأمل والبحث، والخلاف الأصولي محفوف بجملة من المخاطر، كأن يكون مبنياً على أصل عقدي، أو أصل كلامي أو منطقي، فالحكم له بعدم الثمرة حينها، قد يختلف بحسب أصل الخلاف.
والخلاف الذي يعني الأصولي هو الذي يدور حول أصلٍ ما، هل يعد من الأصول أم لا؟ وهل ينتج فرعا صحيحا أو لا؟
ومما يعين في تحديد ثمرة الخلاف تحرير محل النزاع في الخلاف.
رابعاً: تحرير محل النزاع.
وهو مهم في أمور:
الأول: معرفة قدر الخلاف كما سبق.
الثاني: السلامة من الاستدلال بمحل النزاع.
فموطن النزاع في كثير من الدراسات الأصولية غائب وغير محدد، فقد تحتدم الأقوال، وتصطك الفهوم، ومحل النزاع غير محدد وغير واضح، وفي ظل هذه الخلافات وتصعيدها يزداد غيابا، فعلى الدارسين للأصول أن يعتنوا بهذا الباب، لأنه يُقلِّص من جذوة الخلاف وحدته، ويساعد في إخماد ناره، التي طالما أوقدت واشتد سعارها في كتب الأصول.
فقد يتوهم متوهم بوجود خلاف ما بين عالم وآخر، أو يتوهم عالم بوجود خلاف بينه وبين آخر، بناء على أصوله ومنطلقاته، وهو في حقيقته ليس كذلك. كما وقع للجصاص وردوده على الشافعي. ومثل هذا الخلاف كثير في كتب الأصول، خاصة بين أئمة المذاهب وأتباعهم. وهذا يؤيد ما ذكرناه في الفقرة الأولى من الخلاف.
يتبع ...
ـ[أبوحاتم]ــــــــ[04 - 02 - 06, 03:20 م]ـ
الرابعة: عدم التحرر من قفص التقليد.
مما يُنقم على كثير من الدراسات الأصولية المعاصرة إغراقها في وحل التقليد بلا تبصر.
والتقليد ضارب بأطنابه، ومتعمق بجذوره في كافة العلوم، وفي علم الأصول على وجه الخصوص، فمثلاً: جملة من كتب الأصول من لدن الرازي والآمدي إلى المعاصرين تكاد تكون متطابقة، فالأمثلة هي الأمثلة، والتقرير هو التقرير، والأسلوب ذات الأسلوب.
وهذا ناتج من الاستنساخ غير المحدود، فقد استفحل فيها النقل المحض، وشاعت فيها ظاهرة المتون والمختصرات، التي نشأة وتبلورة في عصور الانحطاط والضعف العلمي، فأصبحت بسببها تدور في حلقة مفرغة، لا تجد فيها ما يغني ولا يسمن من جوع، سوى تفكيك العبارات، وكثرة الاعتراضات، والقيل والقال، حتى يخيل لك كأنك بين متعاركين، كلٌ منهما يريد الغلبة لمذهبه، والظفر لرأيه، فغارت الأصول بين تلك المنازعات والخلافات، فلم يُر إلا رسمها، لأن المنبع قد جفّ، وحار الدليل. والمعنيوّن بإصلاح ما انفتق، ورتق ما انخرم، وتجديد ما اندرس، قد تاهوا في بيداء الجدل ومناصرة المذهب، وتفرقوا
¥