و هذا النوع من النسخ من خصائص هذه الشريعة، فالشرائع قبلها كانت تُنَزَّل دفعة واحدة، و تُفسخ دفعة واحدة، فقد آتى الله موسى التوراةَ مكتوبة في الألواح، و أنزل الصحف على إبراهيم، و أنزل الإنجيل على عيسى مكتوبا في الصحف، و أنزل الزبور على داود مكتوبا في الصحف، و لهذا استنكر المشركون تدرج نزول القرآن، فرد الله عليهم بقوله: " و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا "، وقال تعالى: " و قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا و لا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيرا ".
التعارض بين الأدلة
إذا تعارض نطقان، فلا يخلو: إما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاماً، و الآخر خاصاً، أوكل واحد منهما عاماً من وجه و خاصاً من وجه.
فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ.
فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذا إذا كانا خاصين.
و إن كان أحدهما عاماً و الآخر خاصاً فيخصص العام بالخاص.
و إن كان أحدهما عاماً من وجه و خاصاً من وجه، فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر.
هذا الباب معقود للتعارض بين الأدلة.
و التعارض: نوع من التخالف، يقتضي توارد الدليلن المختلفين على معنى واحد، بأن يرد أحدهما بالإثبات و الآخر بالنفي.
و عَقْدُ هذا الباب له: لبيان ما يمكن منه و ما لا يمكن، و للعمل عند حصوله، أو توهمه.
فائدة: التعارض، لا يمكن أن يحصل في الأخبار، كما أن النسخ لا يقع فيها، فالنسخ مختص بالإنشاء لا بالخبر، فالخبر لا يدخله النسخ، لأن نسخه تكذيب له، و الوحي لا كذب فيه، و كذلك التعارض لا يقع في الأخبار، لأن ذلك تكذيب، و إنما يمكن التعارض في الإنشاءات.
و لا تعارض بين قطعيين، لأن ذلك يقتضي أن أحدهما ناسخٌ للآخر.
و لا بين قطعي و ظني، لأن القطعيَّ مقدم على الظني.
فيبقى التعارض بين ظنيين فقط، و هو من الأمور المتشابهة، لذلك كان للأصوليين فيه طريقتان:
- إحداهما: البداءة بالترجيح بين النصين، و هو مذهب الحنفية.
- ثانيهما: البداءة بالجمع بينهما، و هو مذهب المالكية و الشافعية و الحنابلة.
و قد قال مالك رحمه الله تعالى: " إعمال الدليلين أحب إليَّ من إلغائهما أو إلغاء أحدهما ".
قال: " إذا تعارض نطقان " و المقصود بهما: ما كان من النص، أي: من الوحي، كالآيتين، و الحديثين، و الآية و الحديث.
قال: " فلا يخلو: إما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاماً، و الآخر خاصاً، أوكل واحد منهما عاماً من وجه و خاصاً من وجه ".
هذا التقسيم راجع إلى الدلالة، فإذا تعارض نطقان، فلا يخلو:
الأول: إما أن يكونا عامين، و ذلك مثل نهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، و بعد الفجر حتى تطلع، و قوله: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "، فكل واحد منهما عام في بابه، فالنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر و صلاة العصر عام في هذا الباب في النوافل، و النهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين عام أيضا.
الثاني: أن يكون أحدُهما عاما، و الآخرُ خاصا، فيكون مخصصا له، كالنهي عن بيع ما ليس لدى الإنسان، و الإذن في السَّلَم، فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، و أجاز السلم، فالأول عام في كل ما لدى الإنسان، و الثاني: خاص بالسلم، فيُحمل ذلك على التخصيص.
الثالث: أوكل واحد منهما عاماً من وجه و خاصاً من وجه، و عليه يُحمل ما سبق، في النهي عن الصلاة بعد الفجر و بعد العصر، و النهي عن الجلوس في المسجد حتى يصلي الإنسان ركعتين، فيُقال: هذا عام من وجه، و الآخر خاص من وجه، و يُبحث عن الوجه الذي يُعمم منه أحدهما و يُخصص منه الآخر.
الرابع: [لعل الشيخ سها عنه، و هو أن يكونا خاصين].
قال: " فإن كانا عامين: فإن أمكن الجمع بينهما جمع "، لأن الجمع مقدم على الترجيح.
قال: " و إن لم يكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ "، يُتوقف فيهما، لعلمنا أن أحدهما منسوخ بالآخر، و جهالتنا بالناسخ.
¥