قال: " فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، و كذا إن كانا خاصين " فهو مثل العامين، إن أمكن الجمع بينهما جُمع، و إلا فإن عرف التاريخ حُمل ذلك على النسخ، و إلا فالتوقف، لأن ذلك من النسخ الذي لم يُعرف فيه الناسخ من المنسوخ.
قال: " و إن كان أحدهما عاماً و الآخر خاصاً فيخصص العام بالخاص ".
كما بينا [أي في النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، مع الإذن ببيع السلم].
قال: " و إن كان أحدهما عاماً من وجه و خاصاً من وجه، فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر ".
فالحالة الأولى: و هي كونهما عامين، فللخروج من التعارض طرقٌ:
1. أن يمكن الجمع بين الدليلن المتعارضين، فيُجمع بينهما، و مثاله: قول النبي صلى الله عليه و سلم: " أيما إهاب دُبغ فقد طهر "، و ما رُوي عنه صلى الله عليه و سلم من حديث عبد الله بن عُكيم أنه كتب لهم قبل موته بشهر: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب "، فجُمع بينهما، بأن الإهاب: اسم لما لم يُدبغ، فيُحمل حديث عبد الله بن عكيم على ما لم يُدبغ، و حديث ابن عباس على ما دُبغ، فيكون ما دبغ قد طهر، و ما لم يدبغ باق على النهي، و محل هذا: عند صحة حديث عبد الله بن عكيم، و الراجح فيه: عدم الصحة.
2. أن يُجعل أحدهما ناسخا للآخر إذا علم التاريخ، و مثاله: قول الله تعالى: " فمن تطوع خيرا فهو خير له و أن تصوموا خير لكم "، فقوله " فمن تطوع خيرا فهو خير له " هذا يدل على التخيير بين الصوم و الإفطار في السفر، و قوله: " و أن تصوموا خير لكم " هذا يقتضي ترجيح الصيام على الإفطار، فحيئنذ يُجعل الثاني ناسخا، أي: أن الصيام أفضل لمن لا يشق به، [و في هذا المثال نظر].
3. و إن لم يُعلم التاريخ، يُتوقف بينهما، و قد حُمل على هذا حديث بسرة بنت صفوان: " من مس ذكره فليتوضأ " مع حديث طلق بن علي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الرجل يمس ذكره، أعليه الوضوء، فقال: " لا، هل هو إلا بضعة منك "، فهذان الحديثان تعارضا، و لم يُعرف أيهما السابق، فيُتوقف فيهما.
و عند الحنفية: يُرجح حديث طلق بن علي على حديث بسرة بنت صفوان، بأن هذا من أحكام الرجال، و لم يروه أحد من الرجال فلا يُؤخذ برواية المرأة له.
و عند الجمهور: يُرجح باعتبار قوة الإسناد، و حديث بسرة – لا شك – أقوى إسنادا من حديث طلق بن علي.
وأيضا فإن العمل بالاحتياط، بالخروج من الخلاف وبإعمال الدليل، يُرجح حديث بسرة على حديث طلق.
الحالة الثانية: أن يكون الدليلان خاصين، فللخروج من التعارض طرق:
1. الجمع بينهما، كما في حديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم – أنه صلى الله عليه و سلم صلى الظهر يوم النحر بمكة، و في حديث ابن عمر أنه صلى الظهر بمنى، فهذان الحديثان تعارضا، و هما خاصان، فجمع بينهما النووي، فقال: " إن وجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه و سلم طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى و صلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك "، و لكن يُمكن أن يُحمل على أن أحدهما نسي و الآخر ذكر.
2. إذا لم يمكن الجمع بينهما، فالثاني ناسخ إذا عُلم التاريخ، مثل قول الله تعالى: " يا أيها النبيء إنا أحللنا لك أزواجك الاتي آتيت أجورهن و ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ..... " الآيةَ، ظاهر هذه الآية: غباحة الزواج للنبي صلى الله عليه و سلم دون انحصار في عدد محدد، ثم أُنزِل قول الله تعالى: " لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك " و قد عُلم أن هذه الآية نزل بها جبريل بعد أن دخل النبي صلى الله عليه و سلم بميمونة بنت الحارث، و هي آخر مرأة تزوجها، فعُلم أن هذه الآية ناسخة لسابقتها، و مع ذلك جاء في حديث عائشة: " ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له كل شيء كان حرمه عليه في النكاح "، فيدل هذا على أن هذه الآية أيضا نُسخت.
¥