و لهذا قال هو هنا: " هو بذل الوُسع في بلوغ الغرض " و هذا في اللغة مطلقا، اجتهد: بمعنى أنه بذل الوسع في بلوغ غرضه.
قال: " فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد، فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، و إن اجتهد فيها و أخطأ فله أجر واحد ".
- " فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد " أي: إن كان –فعلا– مجتهدا، تتحقق فيه شروط الاجتهاد.
- " فإن اجتهد في الفروع " في استخراج أحكامها، و " لا اجتهاد في محل النص "، فالاجتهاد إنما يكون في الأمر الذي خفي حكمه.
- " فأصاب " الحكمَ في علم الله.
- " فله أجران " حينئذ.
- " و إن اجتهد فيها و أخطأ " الحكمَ في علم الله.
- " فله أجر واحد " لاجتهاده، و ليس عليه إثم في خطإه، لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، و إذا اجتهد و أخطأ فله أجر ".
قال: " و منهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب "، هذه مسألةُ التخطئةِ و التصوِبَةِ، التي تسمى بـ: رأي المخطئة و رأي المصوبة، و هي: أن الاجتهاد امتحان من الله تعالى للمجتهد في الوصول إلى معرفة الحكم، و هذا الحكم لله في كل مسألة، فما من مسألة إلا و لله فيها حكم، و لكنَّ ذلك الحكمَ خفيٌّ لم يرد فيه نص فامتحن الله الناسَ في الوصول إليه، فمن وصل إلى ذلك الحكم الذي هو في علم الله فهو مصيب قطعا، و من لم يصل إليه فهو مصيب فيما بينه و بين الله باجتهاده، لكن في علم الله أنه لم يصل إلى الحكم الذي علمه الله.
و على هذا، فمن الناس من يرى أن " كل مجتهد مصيب "، و منهم من يرى أن " لكل مجتهد نصيب " فقط، و أنه منهم من يصيب و منهم من يخطئ، فمن أصاب الحق في علم الله فهو المصيب، و من أخطأه فهو مخطئ، و يستدلون بهذا الحديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، و إذا اجتهد و أخطأ فله أجر " فدل هذا على أنه يمكن أن يصيب و يمكن أن يخطئ.
و يمكن الجمع بين القولين، بأنه ما من مجتهد إلا و هو مصيب في امتثاله لأمر الشارع له بالاجتهاد، و لكن مع ذلك قد يصيب الحق في علم الله، و قد لا يصيبه، بحسب توفيق الله له.
و محل هذا في الفروع، و الفروع: هي ما لم يحسمه دليل قطعي، فما حسمه الدليل القطعي فهو من الأصول، و لا يُقصد هنا بالفروع: الفروع الفقهية لإخراج العقائد، بل من العقائد ما لم يحسمه الدليل فيكون محلا للاجتهاد، و من المسائل العملية ما حسمه الدليل فلا يكون محلا للاجتهاد، كوجوب الصلاة و الزكاة و نحو ذلك، و حرمة الزنا و الخمر و نحو ذلك، فهذه الأمور لا اجتهاد فيها، لأنها من الأصول، حيث حسمها الدليل.
قال: " و لا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدى إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى و المجوس و الكفار و الملحدين ".
هذه المسألة حصل فيها الخلاف بين المعتزلة و غيرهم، فقد قال النَّظَّامُ و تبعه على ذلك عدد من المعتزلة: " كل من احتهد في طلب الصواب فهو مصيب سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها " و على هذا، يعذرون من كان من الكفار و المنافقين و الضلال اجتهد في طلب الحق و لم يكابر، و إنما أداه عقله الذي خصه الله به إلى الوصول إلى رأي يراه عينَ الصواب و هو غير مكابر، فيعذرونه.
و هذا القول، دونه قولُ الذي ذهب إليه إمام الحرمين - هنا - و غيره من المتكلمين، من أن الأمور العقدية لا اجتهاد فيها مطلقا، و أن المخطئ فيها غيرُ معذور، و ذكروا عن عدد من الأئمة أنه كان يقول: " اسألني في علم إذا أخطأتُ فيه قلتَ أخطأتَ و لم تقل كفرتَ، ولا تسألني عن علم إذا أخطأتٌ فيه قلت كفرت ".
و قد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن من كان من أهل الإيمان و الصلاح و الالتزام فاجتهد فهو معذور مطلقا، سواء كان ذلك في العقائد أو في غيرها.
و هذا القول وسط بين القولين السابقين، و لعله أقرب للصواب، و أسعد بالدليل.
فإذا كان الإنسان معروفا بالصلاح و الالتزام و الخشية و اجتهد فأخطأ في تأويل الصفات أو في غير ذلك من الأمور، فهو معذور في ذلك الاجتهاد، و لا يضره اجتهاده بل هو مثاب عليه.
و إن كان معروفا بالفساد و الإنكار لأمور الدين و نحو ذلك: فلا يُعذر، و لا يُقبل منه الاجتهاد أصلا في ذلك.
قال: " و دليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً، قوله صلى الله عليه وسلم: ? من اجتهد و أصاب له أجران، و من اجتهد و أخطأ له أجر واحد? " و قد روى هذا الحديث بالمعنى.
قال: " و وجه الدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطَّأ المجتهد تارة و صوبه أخرى "، لأنه قال: " فأصاب " و قال: " فأخطأ "، فدل ذلك على أنه محتمل للأمرين: للإصابة و الخطأ.
قال: " و الله سبحانه و تعالى أعلم "، و ختم بهذا كلامَه.
- و ذلك لإحالة العلم إلى الله تعالى فيما نجهله نحن.
- و من سنة أهل السنة، أن يقولوا فيما التبس عليهم: " الله أعلم ".
- و الإنسان إذا تكلم في أمور الدين الظنية، فمن الأفضل أن يحكم كلامه بذلك لئلا يكون وقع في خطأ، فيحيل العلمَ إلى الله سبحانه و تعالى فيه.
- و من هنا فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول في المسألة إذا سئل عنها فاجتهد يقول: " أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن فضل الله و رحمته، و إن كان خطأ فمن نفسي و من الشيطان ".
و بهذا أنهى ما ذكر في خطبته للكتاب، وإن كان كما ذكرنا لا يحتوي كل أبواب أصول الفقه، لكنه مقدمات مفيدة للمبتدئين في أصول الفقه، يُعرف بها كثير من الاصطلاحات و رؤوس المسائل التي يحتاج إليها من يدرس هذا العلم.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا
¥