فحق الله المحدود أي المقدَّر شرعاً كفرائض الصلاة والصوم والحج والزكاة، فإنها إذا تعلَّقت بذمة المكلّف تكون دَيْناً عليه حتَّى يُؤديَها. وحق العبد المقدّر شرعاً كالديون المالية المترتبة في الذمة من البيع أو الإتلاف، فإنها تبقى دَيناً على المكلّف ما دام لم يقضِها.
62 ـ ومُقتضى التقدير في الأشياءِ - يُشْعِرُ بالقصدِ إلى الأداءِ
يعني أن مقتضى تقدير الحق أي تحيده شرعاً يشعر بقصد أدائه أي تحديد الشارع له يدل على أنه طالب من المكلّف أداءه وإنه باق عليه إن لم يؤدّه ولا يسقط عنه إلا بدليل.
63 ـ وغيرُ محدودٍ كهذا يُطلَبُ - وما لَهُ في ذمَّةٍ ترتُّبُ
يعني أن الحق غير المحدود أي الذي لم يقدّر شرعاً (كهذا) أي كالحق المحدود في أنه يطلب من المكلف فعله إما لزوماً وإما ندباً ولكنه لا ترتب له في الذمة إذا ترك فعله حين طلب منه كالصدقات المطلقة وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر فروض الكفاية.
فصل في أفعال المُكلَّف
وتقسيمها باعتبار ورود الأحكام عليها وتضمنها للمصالح والمفاسد بالذات أو بالتبع:
64 ـ وكُلُّ فعلٍ للعبادِ يوجدُ - إما وسيلةٌ وإما مقصدُ
يعني أن كلّ فعل يوجده العباد أي يصدر منه ظاهراً فإنه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون وسيلة لغيره وإما أن يكون مقصداً أي مقصوداً في ذاته.
والمقاصد: هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
والوسائل: هي الطرق الموصلة إلى المقاصد؛ فهي غير مقصودة لذاتها بل لتوصل إلى المقصود.
65 ـ وهْيَ لَهُ في الخمسةِ الأحكامِ - تأتي به بحكمِ الالتزامِ
يعني أن الوسيلة (تأتي به) أي بحسب المقصد (بحكم الالتزام) له في الأحكام الخمسة غير أنها أخفض رتبة منه في الحكم؛ فوسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة ووسيلة المندوب مندوبة ووسيلة المكروه مكروهة ووسيلة الجائز جائزة.
ويدل على اعتبار الوسائل قوله تعالى {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة} الآية فأثابهم على الظمأ وما معه لأنه وسيلة إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين وصون المسلمين؛ وهذا يدلّ على أن وسيلة الوسيلة كالوسيلة.
قوله (وهي) مبتدأ خبره الجملة تأتي؛ والباء في (به) متعلق بتأتي والضمير عائد على المقصد؛ والباء في (بحكم) متعلقة بـ (تأتي) أيضاً؛ واللام في (له) متعلقة بـ (الالتزام) في آخر البيت، والضمير للمقصد.
66 ـ ويسقطُ اعتبارُها ويُفقدُ - بحيثما يسقطُ ذاك المقصدُ
يعني أن الوسيلة يسقط اعتبارها ويفقد ـ بالبناء للمفعول ـ أي يعدم بالكلية حيثما سقط مقصدها الموصلة له.
قال في التنقيح خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر وهو معدوم فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل.
قال في التنقيح قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى المصلحة الراجحة عليها كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال إلى العدو الذين حرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا. وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به. وكدفع المال إلى المحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال؛ واشترط مالك رحمه الله فيه اليسارة.
قلت: فتبيّن بهذا أن الأصل في مداراة الظلمة التحريم لأنها وسيلة إلى الحرام وهو انتفاعهم بمال المسلمين المدفوع لهم لأنهم مخاطبون بفروع الشريعة قطعاً، ولا تكون جائزة إلا إذا أفضت إلى مصلحة أرجح من الحرام الموصلة إليه.
67 ـ وقدْ يُرى المقصدُ والوسيلهْ - وهْوَ لشيءٍ فوقهُ وسيلهْ
يعني أن المقصد والوسيلة كلّ منهما قد يرى وسيلة إلى شيء فوقه في جلب مصلحة أو درء مفسدة فيكون المقصد وسيلة باعتبار مقصد فوقه في جلب المصلحة أو درء المفسدة؛ وتكون الوسيلة وسيلة لوسيلة فوقها في القُرْب من المقصد.
68 ـ ومنه إنشاءٌ لمِلكٍ عادِيْ - كلاحتطابِ وكالاصطيادِ
هذا شروع منه في تقسيم فعل المكلف باعتبار كونه إنشاء لملك أو نقلا له يعني أن فعل المكلَّف منه ما هو إنشاء لملك عادي كالاحتطاب أي جمع الحطب في مكان غير مملوك، وكاصطياد الوحش، وكإرقاق الكافر وإحياء الموات، فإن في هذا كله إنشاء الملك عادة.
69 ـ ونقلُ مِلكٍ كان من قبلُ عرَضْ - مع عوضٍ كالبيعِ أو دون عوضْ
¥