قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ. انظر العُدة 4/ 1058.
ولذلك كان حتماً على الطالب للحق المتبع لسبيل جماعة المؤمنين، المبتعد عن مشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرف ما أجمع المسلمون عليه من مسائل الشريعة العلمية والعملية، ليستنَّ بسلفه الصالح، ويسلك سبيلهم، ولئلا يقع في عداد من اتبع غير سبيل المؤمنين، فيحق عليه الوعيد المحكم في قوله جل ذكره: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء: 115].
قال ابن حزم رحمه الله: ومن خالفه - أي الإجماع - بعد علمه به، أو قيام الحجة عليه بذلك فقد استحق الوعيد المذكور في الآية. انظر مراتب الإجماع لابن حزم، ص7.
ومرتبة الإجماع بين الأدلة الشرعية تلي مرتبة الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مستدلاً على ذلك بما ثبت عنهم من الآثار، ومن ذلك:
- ما جاء في كتاب عمر رضي الله عنه إلى شريح رحمه الله حيث قال له: اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك.، وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 7/ 240، و البيهقي 10/ 115، و النسائي 8/ 231.
وقد نعى شيخ الإسلام على بعض المتأخرين الذين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولاً في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، كما نعى - أيضاً على الذين يقولون: إن الإجماع نفسه ينسخ النص، وخطّأ هذا الرأي، واختار طريقة السلف؛ لأنها الصواب. انظر الفتاوى 9/ 200، 201.
يقول شيخ الإسلام: فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولاً: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به، وحكم به، وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ رضي الله عنه (رواه أحمد: 5/ 230، 242)، وكتاب عمر وأقوال الصحابة. انتهى وبين رحمه الله أن معرفة النصوص والاطلاع عليها أسهل بكثير من معرفة الإجماع؛ فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وعدم العلم بالنزاع ليس علماً بعدمه، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نحالُ على شيء شاق، ولدينا ما هو أيسر منه وأدل على الحق؟
كما بين أيضاً أنه: حين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع، وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه. نقل عنه ذلك كله ابن القيم في إعلام الموقعين 2/ 237.
والإجماع على قسمين:
قال شيخ الإسلام:. الإجماع نوعان:
قطعي: فهذا لا سبيل إلى أن يُعلم إجماع قطعي على خلاف النص.
وأما الظني: فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي، بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافاً، أو يشتهر القول ولا يعلم أحداً النصوصُ به؛ لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها، فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي، وأما إذا كان يظن عدمَه ولا يقطع به، فهو حجة ظنية، والظني لا يُدفع به النص المعلوم، لكن يُحتج به، ويُقدم على ما هو دونه بالظن، ويُقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدّم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا. والمصيب في نفس الأمر واحد.
وبعد هذا التقرير لمكانة الإجماع في الدين، يحسن أن أذكر أهم فوائد الإجماع التي ذكرها أهل العلم، وكان من دواعي ذكر هذه الفوئد:
¥