ـ[نصر الدين المصري]ــــــــ[26 - 08 - 06, 06:57 ص]ـ
الفصل الأول:
بيان الضوابط الشرعية لإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه
وهذا الإلحاق لا يكون إلا في المحرمات فقط، و كل ما عدا ذلك كالحدود و الرخص و الكفارات لا سبيل لتحقق الإلحاق فيها.
و إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه في التحريم يأخذ سبيلين: سبيل الظن و سبيل القطع.
أولا: سبيل الظن:
و دليله:
حديث (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
فقد دل النص أن هناك بعض المشتبهات، يتحقق فيها بعض أوجه الشبه مع المحرمات، و هذه المشتبهات قد سكت عنها النص ولا ريب و إلا كانت من الحلال البين أو الحرام البين، فمن أراد الاستبراء لدينه فعليه اتقاء الشبهات إي إلحاقها بالمحرمات دون القطع بحرمتها، فهذا سبيل الظن، فإنه لا يعلم ما الحرام منها و لو أكثر من الوقوع فيها لوقع حتما في الحرام.
و قد فعل ذلك ابن عباس، كما صح في الحديث الذي رواه رضي الله عنه قال (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله)
فقد استخدم ابن عباس لفظ (أحسب) و الحسبان يفيد الشك، و هذا الحسبان لا يقوم به حكم ملزم لأحد، فالشبهة هنا أن يلحق كل شئ بالطعام في تحريم البيع قبل الاستيفاء. فكأن ابن عباس يقول لا أدري أحلال ذلك أم حرام، فمن أراد الاستبراء لدينه و عرضه فليتقه.
و لا أحد يستطيع القطع بحكم المتشابهات سوى الله تعالى و رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لذا نجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يرشدنا إلى سؤال أهل الذكر عن المشتبهات متى علمنا أن النص سكت عنها، بل أرشدنا إلى اتقائها لأنها ستجر إلى الحرام.
و لا يجوز إتباع الظن و محاولة استنباط حكم ظني للمشتبهات التي سكت عنها النص، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إن الله سكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)، و قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه من استطعتم، و إذا نهيتكم عن شئ فدعوه)
سبيل القطع:
و دليله:
حديث (لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)
و التحايل في اللغة هو إحالة الأمر عن ظاهره للوصول إلى المقصود، ويكون بذلك معناه الشرعي تغيير بعض صفات المنصوص عليه المحرم ليتحول إلى مسكوت عنه مباح بغية الوصول إلى المقصود من الفعل المحرم، و النهي في الحديث لا يمكن أن يكون إلا عن أمر معلوم، و لو لم يكن بإمكاننا تمييز التحايل لصار الأمر لغوا، و لذا كان من المستطاع الوقوف على معنى التحايل متى كان للفعل المحرم مقصود ظاهر لا يمكن الوصول إليه بطريق آخر، و من هنا أمكن القطع بتحريم الحيل التي يُستحل بها محارم الله.
و قد ورد في بعض الآثار أن اليهود أذابوا الشحوم التي حرمها الله عليهم و باعوها و أكلوا ثمنها، و أنهم لما حرم الله عليهم صيد السبت نصبوا الشباك أو المصائد في سبتهم ثم صادوا في اليوم الذي يليه. أي وصلوا إلى المقصود من المحرمات مع الالتزام بالمعنى الحرفي للأمر.
و بعض ما حرمه الله له مقصود ما يسعى إليه مرتكب الحرام أو له ناتج لا يتحقق دون الوقوع في هذا الفعل المحرم
و بناء على ما تقدم يمكن تعريف التحايل بأنه:
تغيير بعض صفات الفعل المحرم للوصول كليا أو جزئيا إلى مقصود أو ناتج لا يمكن الوصول إليه دون الوقوع في هذا الفعل المحرم، و إن كان الفعل المحرم مبني على التعامل فلابد أن يتحقق المقصود أو الناتج لكلا المتعاملين، و هذا الفعل المحرم قد يكون محرما بأصله أو إسقاطا لواجب.
و هذا ما غفل عنه كثير ممن عُرفوا بالظاهرية فجمدوا على المعنى الحرفي للنهي أو الأمر المحرم دون النظر إلى المقصود أو الناتج الذي لا يتحقق إلا بالوقوع في الحرام.
¥