قد اتفقنا على أن خبر الواحد العدل يحتمل تطرق الوهم والخطأ إليه ولكن بشرط أن يتكفل الله تعالى ببيان الحق من طريق آخر
وذكرنا أن الله تعالى لم يتكفل بوصول كل الأدلة الثابتة إلى كل مجتهد بمفرده , وبذلك فإن مجتهدا ما قد يبلغه خبر آحاد مع احتمال تطرق الوهم والخطأ إليه دون أن يبلغه البيان الذي تكفل الله تعالى به (وهذا أمر واقع لا يحتاج إلى برهان).
فنقول هنا أن هذا الخبر لا يفيد القطع في نظر هذا المجتهد وذلك لتطرق الاحتمال إليه
أما إذا بلغه هذا الخبر بنفس اللفظ من عدة طرق أحرى مختلفة تبلغ حد التواتر فهنا يتلاشى تماما احتمال تطرق الوهم والخطأ إلى رواة الطريق الأول وتصبح صحة اللفظ عند المجتهد قطعية وذلك لانتفاء أي احتمال للوهم أو الخطأ من الراوي ولذلك قالوا أن الخبر المتواتر يفيد العلم اليقيني. فهذا الخبر له عدة طرق , وكل طريق بمفرده لا يفيد القطع لتطرق الاحتمال إليه ولكن مجموع هذه الطرق أفاد القطع لانتفاء أي احتمال
وهذا يوضح أن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق
المثال الثاني:
وهو شبيه بالتواتر المعنوي , حيث تُنقل إلينا وقائع مختلفة قد تفوق الحصر تجتمع على معنى واحد فتفيد فيه القطع , كالقطع بشجاعة علي – رضي الله عنه – وكرم حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما
فإن الأدلة إذا تكاثرت على الناظر المجتهد فإنها تعضد بعضها بعضا بحيث تصير بمجموعها مفيدة للقطع
ومن الخطأ البين أن نأتي إلى الخبر المتواتر ثم ننظر إلى كل طريق بمفرده فنقول:
هذا خبر واحد يتطرق إليه احتمال الوهم من الراوي فلا يفيد القطع 0 ثم نفعل ذلك مع كل طريق من طرق هذا الخبر على حدة بمفرده حتى نصل في النهاية إلى الحكم بعدم قطعية الخبر 0
فهذا منهج خاطيء قطعا والصواب هو النظر إلى مجموع الطرق مجتمعة والتي تفيد القطع والعلم اليقيني لبلوغها حد التواتر
وبذلك يتبين أنه ليس من الصواب منهج البعض وهو الإتيان إلى مجموع أدلة مجتمعة على معنى واحد ثم يبدأ في الاعتراض على كل منها بمفرده نصا نصا 0 فيقول: هذا النص الأول لا يفيد إلا الظن فلا يحتج به 0 وهذا النص الثاني مثله والثالث مثله والرابع و000الخ
ففي هذا المنهج عدم مراعاة للمقدمة الأصولية الهامة التي نبه عليها غير واحد من كبار علماء الأصول كالإمام الغزالي في المستصفى أول باب الإجماع والإمام الشاطبي في أول الموافقات
وهي انه لابد من النظر إلى مجموع تلك الأدلة مجتمعة لأنها بإجتماعها على معنى واحد فإنها تفيد فيه القطع وليس الظن
لأن للإجتماع من القوة ما ليس للافتراق كما ذكرنا في خبر الواحد مع الخبر المتواتر
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
سادسا: تعليق على حديث ابن عباس رضي الله عنه:
روى الإمامُ مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " قال ابن عباس: " وأحسب كل شيء مثله "
وأخرجه الإمام البخاري بلفظ: " ولا أحسب كل شيء إلا مثله"
ورواه ابن ماجة بلفظ: " وأحسب كل شيء مثل الطعام "
وهذا قياس صريح من ابن عباس – رضي الله عنهما- حيث قاس كل مبيع على الطعام
إنه ابن عباس رضي الله عنه الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم- ودعاؤه مستجاب- فقال:
" اللهم فقهه في الدين" كم في صحيحي البخاري ومسلم
فها هو ابن عباس – رضي الله عنه - يصرح بمنهجه الذي فهمه من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه يرى أن المسكوت عنه يأخذ حكم المنطوق به لعدم وجود فرق بينهما يوجب اختلاف حكميهما 0 أو لاتحادهما في الوصف الذي تعلق به الحكم
فوجود نفس الوصف أو المعنى مع عدم الفارق المؤثر 00 كل ذلك يوجب اتحاد الواقعتين في الحكم في نظر ابن عباس رضي الله عنه 0
وهل يتجرأ ابن عباس - رضي الله عنه – على اختراع طريقة ومنهج في الدين لمعرفة حكم الواقعة التي لم يأت نص مباشر بحكمها؟!!!
وهل يتجرأ كبار الصحابة على السكوت على هذا الإختراع في أصول الدين دون أن يصرحوا بإنكار مشروعية اتباع هذا المنهج لمعرفة الحكم الشرعي؟!!!!!!!
ثم:
كيف يدعو له الرسول - صلى الله عليه وسلم – بالفقه في الدين؛ ثم تكون استجابة الدعاء من الله بالعكس , أي بأن يخترع في أصول الدين منهجا باطلا لمعرفة الحكم الشرعي؟
نستغفر الله العظيم من هذا القول
إنه لا يجوز قطعا أن نظن ذلك بابن عباس رضي الله عنه , لأنه يلزم منه أن الله تعالى لم يستجب لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم , بل و ابتلى ابن عباس بوقوعه في ضلالة اختراع أصل في الشرع ومنهج باطل لمعرفة الحكم الشرعي
وهذا محال قطعا
وقد ثبت مثل ذلك عن غير واحد من الصحابة دون إنكار أحد منهم , كما تقدم بيانه
تنبيه:
قد يُخطيء الصحابي في اجتهاده في مسألة فرعية
ولكنه لا يخترع منهجا جديدا أو يبتدع أصلا لاستنباط الأحكام الشرعية
وإن حدث ذلك: فسيُنكر عليه الصحابة ذلك , كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم
¥