بالسماع يدل على اشتراط العلم بالسماع. ووجهُ ذلك الاستدلال هذا إنما يصح فيما لو كان الإعلال بنحو قولهم " لا أعرف لفلان سماعا من فلان " إعلال بعدم العلم بالسماع فعلا، وإعلالا بعدم العلم بالسماع وحده؛ فهل الأمر في نحو تلك العبارة على هذا المعنى حقا؟
قبل الجواب التفصيلي المدلَّل عليه، أذكّر بأمرٍ لا يخفى على المتخصِّصين، يتعلّق بأحكام أئمة الحديث بعدم السماع أو الانقطاع والإرسال بين راويين متعاصرين، تلك الأحكام التي صُنِّفت لجمعها مؤلفات مفردة، ك (المراسيل) لابن أبي حاتم و (جامع التحصيل) للعلائي و (تحفة التحصيل) لأبي زرعة العراقي.
لا يشك من نظر في تلك الأحكام بعدم السماع وبالانقطاع، والتي
ظاهرها الجزم بعدم وقوع سماع = أنها غالبا مبنيةٌ على قرائن تتعلق
بالراوي أو المرويِّ عنه أو بالخبر المروي أو بذلك كله أو بعضه. وأنها ليست مبنيةً على خبر من اراوي (المحكوم بعدم سماعه)، يعلن فيه
بأنه لم يسمع من فلان .. إلا نادرا أو قليلا. هذا أمرٌ لا يشك فيه المتخصصون، ولن يشك فيه غيرهم فيما لو تمهل حتى ينظر في الأمثلة الآتية بعد هذا الجواب الإجمالي.
والقرائن الدالة على عدم السماع قد تتوارد، فتفيد القطع بعدم وقوعه فعلا. وقد لا تصل إلى هذا الحد، فتفيد غلبة الظن بعدم وقوعه
فقط.
فإن كانت القرائن الدالة على عدم السماع فيما دون حد القطع بعدم
وقوعه، فإن الراوي لو صرّح بالسماع (فيما يثبت عنه) ممن أفادت القرائن غلبة الظن بعدم سماعه منه، فإن الأصل تقديم النص على القرائن؛ لأنه من باب تقديم القطعي على الظني الدلالة. فيكون الأصل
في هذه الحالة الحكم بالسماع، وعدم النظر إلى القرائن. لكن إن لم يوجد نصٌ دالٌّ على السماع، فإن إفادة القرائن غلبة الظن بعدم وقوع
السماع تبقى هي المعمول بإفادتها المحكوم بما ترجحه. وهنا يظهر أن الوقوف على نص دال على السماع أو عدم الوقوف عليه هو القاعدة التي ننطلق منها في إعمال دلالة القرائن أو عدم إعمالها؛ ولذلك كان التنصيص على عدم وجود لفظ دال على السماع عند وجود تلك القرائن
أمرا محتما، لا ستكمال المقدمات التي ستُوصلنا إلى النتيجة. وهذا وجهٌ أولٌ لسبب الإعلال بعدم العلم بالسماع، وهو أنه إعلامٌ بأن الراوي
لم يذكر نصا دالا على السماع، وغالبا لا يكون لهذا الإعلام أيّ فائدة إلا إن كانت هناك قرائن تشهد لعدم السماع.
والوجه الثاني: أننا بينا آنفا أن الحكم بعدم السماع الذي يرد كثيرا في أحكام الأئمة مبنيٌّ (في الغالب) على ملاحظة القرائن، وليس مبنيا على خبر يقيني ونصٍّ من الراوي نفسه (مثلا) بأنه لم يسمع من فلان .. إلا نادرا.
ومادام الأمر كذلك، فإن القرائن وحدها قد لا تصل إلى حد إفادة القطع بعدم اللقاء، وقد تقترب من إفادة القطع، وقد تفيده. لكن يبقى
أن الطريق إلى ذلك كله (وهو القرائن) طريق وعر، والحكم الصادر من خلاله حكم على مغيب مجهول؛ لذلك كان من تمام الورع ومن الدقة في التعبير أن يستخدم الأئمة عبارات تتضمن التشكيك في السماع وترجيح عدم وقوعه، دون تجاوز ذلك إلى عبارات الجزم والقطع. فكانت
عبارة نفي العلم بالسماع أحدى هذه العبارات، التي إنما قصد بها إعلان الشك في السماع وترجيح عدمه.
كما كان منهم أيضا نحو قولهم: " فلان لا أدري سمع من فلان أو لم يسمع " [1].
والمقصود من نحو هذه العبارات بيان أن هناك قرائن تشهد لعدم حصول السماع، مع عدم قيام مايدفع هذه القرائن، وهو النص الصريح
الدال على السماع.
الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر أمثلة لهذا التعبير في المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 433، 559، 813، 814، 939).
ــــــــــــــــــــ يتبع ـــــــــــــــــــــ
ـ[مبارك]ــــــــ[12 - 11 - 02, 09:33 ص]ـ
ومازال العلماء (قديما وحديثا) يتعاملون مع عبارات نفي العلم بالسماع على هذا المعنى الصحيح، وهي أنها عبارات نفي للسماع،
وأنها مثل قول العالم " لم يسمع فلان من فلان " أو " فلان عن فلان منقطع " أو " مرسل " ونحوها من العبارات التي فيها جزم بعدم السماع
. ولم يتعاملوا معها على أنها عباراتٌ تدلُ على خبر مجرد بعدم العلم بالسماع، خبرٍ قائمٍ على اشتراط العلم بالسماع. وهذا أمرٌ جليٌّ، لا
¥