والجوابُ: نعمْ. وقدْ نقلنَاهُ ..
وإنماينفي وجودَ معنى صحيح لهذا الخبرِ الضعيفِ إسنادًا مَنْ لم يكنْ فقهُهُ وعلمُهُ تامينِ بهذا البابِ، وكثيرٌ مما يبطلُهُ الناسُ من معاني الألفاظِ يكونُ إنكارهُمْ راجعًا لنقصِ الفقهِ، لالخلوِّ اللَّفظِ من هذا المعنى ..
أماالخلافُ وما يترتبُ عليهِ من مفاسدَ، فقد نقلنا فيه كلامَ أهلِ الْعلمِ مرارًا وحتى صار ينادي الكلام الذي نقلناه عمن يعمل به فلا يكاديجد ..
والنزاعُ السائغُ مشروعٌ لا يُوجِبُ فرقةً، وإنَّما الذي يُوجِبُ الْفُرْقَةَ هو كماقال الشيخ: «سَبَبُ الْفُرْقَةِ: تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ».
أمَّا مجردُ الخلافِ منْ غيرِ بغيٍ،ومع حدبِ النفسِ على طلبِ الحقِّ، فهو مشروعٌ بلانزاعٍ، وإنَّما يدخلُ الذمُّ إلى الخلافِ السائغِ إذا بغَى بعضُ المختلفين علىبعضٍ، أو أعرضَ بعضُ المختلفين عنِ الْبينةِ بعدَ ظهورِهَالَهُ ..
أمَّا نفسُ الخلافِ والتنازعِ والردِّ في مسائلَ الخلافِ السائغِ فقدْ وقعَ بينَالصحابةِ، فرجعُوا للوحْيِ فاختلفُوا في فهمِهِ، فردَّ بعضهُمْ على بعضٍ، وقضَى بعضهُمْ على بعضٍبالخطأِ، والجميعُ مأجورٌ، ولوْ كانَ ذلكَ حرامًا مذمومًا في نفسِهِ لَوَجَبَ أنْ يبينَ اللهُ لخيرِ القرونِ، وأنْ يبينَ خيرُ القرونِ لنَا ما هو طريقُ إعدامِ الخلافِ السائِغِ ..
وسبحانَ اللهِ عنْ أنْ يجعلَ ما هوَ شرٌّ مذمومٌ حالًا لازمًا للصحابَةِ، والتابعينَ، ومنْ بعدهُمْ لا فِكَاكَ لهُمْمنْهُ ..
ومعاذَ اللهِ أنْ يقولَ منْ هوَ في مثْلِ جلالَةِ عمرَ بْنِ عَبْدِ العزيزِ عمَّا هوشرٌّ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرِالنَّعَمِ».
ومعاذَ اللهِ أنْ يحبَ القاسمُ بنُ محمدٍ، وعمرُ بنُ عبدِالعزيزِ الشَّرَّ، ويفضلونَهُ، قال القاسمُ: «لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْيَخْتَلِفُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَلَوْ أَخَذَرَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي سَعَةٍ».
ومعاذَ اللهِ أنْ يُعْرَضَ علَى مالكٍ قطعُ بابِ الشَّرِّفيرفضُ ويقولُ: «فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْعِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْآفَاقِ، وَكُلٌّ عِنْدَ نَفْسِهِ مُصِيبٌ».
ومعاذَ اللهِ أنْ يؤلِّفَ رجلٌ كتابًا فِي الِاخْتِلَافِ ـ أيْفِي الشَّرِّ ـ فيسميه الإمامُ أحمدُ بْنُ حنبلٍ: «كِتَابَالسَّعَةِ».
وقالَ القاسمُ بْنُ محمدٍ أحدُ الفقهاءِ السبعةِ: «لَقَدْ نَفَعَ اللهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، لَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ سَعَةٌ، وَرَأَى خَيْرًا مِنْهُ قَدْعَمِلَهُ».
وقالَ عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ الماجشون: «فَإِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ سَعَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ».
هَذَا فِقْهُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَخَيْرِالْقُرُونِ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ضَيَّقُوا فَيُخْشَى أَنْ يُضَيِّقَ اللهُ عَلَيْهِمْ ..
والمعنَى إذَا كانَ حقًّا وَجَبَ الحكمُ بكونِهِ منَ الْحَقِّ سواءٌ ثبتَ بلفظِهِ فِي الوحْيِ أَمْ لَا، مادَامَ ليسَ فِي الوحْيِ ما يُبطلُهُ، وقالَ بِهِ بعضُ السَّلفِ، وإنَّما ينفعُ ثبوتُ المعنَى في الوحْيِ فِي كونِهِ لا يحتاجُ لإثباتٍ آخرٍ.
أمَّا في مسألتِنَا، فإسنادُ الخبرِ باطلٌ، لكنَّ معنَاهُ لهُ وجْهٌ صحيحٌ يُعرفُ باستقراءِ وجوهِ الشَّرعِ، وتصرفاتِ السَّلفِ، و هذا المعنى منصوصٌ في كلامِب عضِ السَّلفِ، وكلامِ بعضِ مَنْ بَعْدَهُمْ ..
وَأَخْتِمُ بِهَذَا:
قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَالْأَمْرُ بِالْقِيَامِ عِنْدَالِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى اِخْتِلَافٍ لَايَجُوزُ، أَوِ اخْتِلَافٍ يُوقِعُ فِيمَا لَا يَجُوزُ كَاخْتِلَافٍ فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ، أَوْ فِي مَعْنًى مِنْهُ لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، أَوِ اخْتِلَافٍ يُوقِعُ فِي شَكٍّ أَوْ شُبْهَةٍ، أَوْ فِتْنَةٍ وَخُصُومَةٍ، أَوْ شِجَارٍوَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي اِسْتِنْبَاطِ فُرُوعِ الدِّينِ مِنْهُ، وَمُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيل ِالْفَائِدَةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيذَلِكَ، فَلَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفَضِيلَةٌظَاهِرَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِإِلَى الْآنَ ـوَاَللهُ أَعْلَمُ ـ.».
¥