وباستكمال هذه الدرجات الثمان استكمل العبد مقام التوكل، وثبتت قدمه فيه. وهذا معنى قول بشر الحافي ([28]): يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به" ([29]).
"التوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه في الطريق إلى نهايته، وكلما ازداد قربه به وقوي سيره ازداد توكله.
فالتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى له السير إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته، وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته.
قال الله تعالى:] وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [([30]). ففي الآية جعل التوكل شرطاً في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل" ([31]).
(فالتوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد، فلا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين) ([32]).
وقال تعالى:] وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [([33])، فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولابد.
والله تعالى يجمع بين التوكل والإيمان، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والعبادة، وبين التوكل والهداية:
1 - أما الجمع بين التوكل والإيمان، ففي مثل قوله تعالى:] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [([34]).
ونظيره قوله تعالى:] وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [([35]). وفي هذه الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك.
2 - وأما الجمع بين التوكل والإسلام، ففي قوله تعالى:] وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [([36]).
3 - وأما الجمع بين التوكل والتقوى، ففي مثل قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [([37]).
4 - وأما الجمع بين التوكل والعبادة، فقد جمع الله سبحانه بينهما في سبعة مواضع من كتابه:
أحدها: في سورة أم القرآن:] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [([38]).
الثاني: حكاية عن شعيب أنه قال:] وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [([39]).
الثالث: قوله حكاية عن أوليائه وعباده المؤمنين أنهم قالوا:] رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [([40]).
الرابع: قوله تعالى لنبيه e: ] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [([41]).
الخامس: قوله تعالى:] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [([42]).
السادس:] فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [([43]).
السابع:] قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [([44]).
فهذه المواضع السبعة جمعت الأصلين: التوكل: وهو الوسيلة، والإنابة وهي: الغاية. فأشرف غاياته التي لا غاية له أجل منها: عبادة ربه والإنابة إليه. وأعظم وسائله التي لا وسيلة له غيرها البتة: التوكل على الله والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة، فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل.
5 - وأما الجمع بين التوكل والهداية ففي مثل قول الرسل لقومهم:] وَمَا لَنَا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [([45]). وقال تعالى:] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [([46]).
¥