فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون رجلًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان كلّما افتتح سورةً يقرأ بها لهم في الصّلاة ممّا يقرأ به افتتح بـ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] .. حتّى يفرغ منها ثمّ يقرأ سورةً أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كلّ ركعةٍ، فكلّمه أصحابه فقالوا: إنّك تفتتح بهذه السّورة ثمّ لا ترى أنّها تجزئك حتّى تقرأ بأخرى، فإمّا تقرأ بها وإمّا أن تدعها وتقرأ بأخرى فقال ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمّكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكانوا يرون أنّه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمّهم غيره، فلمّا أتاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أخبروه الخبر. فقال: يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السّورة في كلّ ركعةٍ؟ فقال: إنّي أحبّها، فقال: حبّك إيّاها أدخلك الجنّة.
رغم أن الفعل جائز شرعًا .. غير أنهم رأوا في هذا العمل مظهرًا جديدًا في التطبيق.
وهؤلاء علماء الأمة يجعلون من التقابل بين السنة والبدعة أساسًا لتفسير القرآن ..
والحقيقة: أن هذا التقابل -كأساس في التفسير- يرجع إلى المعالجة الموضوعية للآيات، كما يرجع إلى الحساسية الشديدة عند هؤلاء العلماء تجاه خطر البدعة ([1]) .. ومن هنا يأتي تفسير الآيات مثبتٌ لإحساس علماء الأمة بشرِّ البدعة.
عن ابن عباس في قوله عز وجل: ((ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [الحج:9] قال: (هو صاحب البدعة).
يقول القشيري في قوله جل ذكره: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [التغابن:11].
(يهد قلبه) لاتباع السُّنَّةِ واجتنابِ البِدْعة ([1]).
ويقول الإمام البغوي في تفسيره: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2] (قيل: الإثم الكفر، والعدوان الظلم، وقيل: الإثم المعصية، والعدوان البدعة ... ).
وفي تفسير ابن أبي حاتم عن مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ في قَوْله: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) [آل عمران:8] أَيْ: (بَعْدَمَا بَصَّرْتَنَا مِنَ الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالضَّلالَةِ).
وقد سبق قول الإمام أبو عثمان النيسابوري في تفسير قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) [الشعراء:89] قال: (هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة).
ويقول الإمام الألوسي في تفسير قوله تعالى: ((الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [إبراهيم:1] قال جعفر: (من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب).
ويقول ابن الجوزي في تفسير قوله تعالى: ((يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)) [المائدة:40] (فيه قولان:
أنَّه في الآخرة بعد إِنشائهم، أو أنَّه في الدنيا.
ثم فيه خمسة أقوال حكاها الماوردي ...
الثالث: يعذِّب بمتابعة البدعة، ويرحم بملازمة السُّنَّة).
وفي قَوْلَه تَعَالَى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) [النساء:171] قال قَتَادَةَِ (لا تغلوا في دينكم): لا تَبْتَدِعُوا.
ولكن حساسية الأمة من البدعة يجب أن تكون كاملة بكمال عقيدة الأمة ودينها ..
فلا يكون الكلام على بدعة في «النسك» دون البدعة في «الحكم» و «الولاء» .. فتصب كل حساسية الأمة تجاه البدعة في بعض الدين دون بعضه.
ومن هنا يجب أن تكون معاداة البدعة والحساسية تجاهها منبثقة عن التصور الكامل للإسلام.
فالتحذير من البدعة لا بد أن يكون ملازمًا لكل قضايا الإسلام وكل بيان فيه، ودليل ذلك عهدُ النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في حديث العرباض رضي الله عنه، قال: صلَّى بنا رسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم ذات يومٍ، ثُمَّ أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغةً، ذرفت منها العُيُونُ ووجلت منها القُلُوبُ، فقال قائلٌ: يا رسُول الله، كأنَّ هذه موعظةُ مُودِّعٍ! فماذا تعهدُ إلينا؟
فقال: «أُوصيكُم بتقوى الله والسَّمع والطَّاعة وإن عبدًا حبشيًّا، فإنَّهُ من يعش منكُم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكُم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء المهديِّين الرَّاشدين، تمسَّكُوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكُم ومُحدثات الأُمُور؛ فإنَّ كُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» ([1]) وفي رواية: «وكلَّ ضلالةٍ في النَّار» ([1]).
والوصية بالسنة والتحذير من البدعة لا يكون إلا في واقع الطاعة المطلقة، التي تستطيع استيعاب هذه الوصية ..
ومن هنا تقررت في الأمة قاعدة السمع والطاعة قبل الوصية بالسنة.
وهي القاعدة التي تقررت بصورة نهائية في خطبة الوداع:
عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة عن أبيه ذكر النّبيّ صلّى اللّهُ عليه وسلّم قعد على بعيره وأمسك إنسانٌ بخطامه أو بزمامه، قال: «أيُّ يومٍ هذا؟» فسكتنا حتّى ظننّا أنّهُ سيُسمّيه سوى اسمه، قال: «أليس يوم النّحر؟» قُلنا: بلى، قال: «فأيُّ شهرٍ هذا؟» فسكتنا حتّى ظننّا أنّهُ سيُسمّيه بغير اسمه، فقال: «أليس بذي الحجّة» قُلنا: بلى، قال: «فإنّ دماءكُم وأموالكُم وأعراضكُم بينكُم حرامٌ كحُرمة يومكُم هذا في شهركُم هذا في بلدكُم هذا، ليُبلّغ الشّاهدُ الغائب؛ فإنّ الشّاهد عسى أن يُبلّغ من هُو أوعى لهُ منهُ».
لنفهم أن أصحاب التصور الإسلامي الكامل هم أهل الوصية .. وأن أهل السمع والطاعة .. هم أهل السنة وأعداء البدعة.
منقول
http://www.alsoufia.com/articles.aspx?id=2282&selected_id=-2292&page_size=5&links=true&gate_id=2249 (http://www.alsoufia.com/articles.aspx?id=2282&selected_id=-2292&page_size=5&links=true&gate_id=2249)
¥