2 - الموت يعبَّر عنه بالوفاة وبالمنية أيضا. فلماذا نستغرب استعمال لفظ "الاختطاف" إذا ارتبط بالموت، ولا نستغرب المعاجلة إذا ارتبطت بالمنية؟ وقد ثبت عن العرب أنها تقول: " رنقت منه المنية" بمعنى: دنا وقوعها، وتقول: "أحدقت به المنية"، وتقول: "اخترمته المنية". فهل سننكر هذه الاستعمالات، بحجة أن الأجل المرتبط بالمنية لا يعلمه إلا الله، وبالتالي لا يجوز استعمال عبارة "دنا أجله"؟! والعرب تقول: "غاله الموت" بمعنى: أهلكه. فهل سنرفض هذه العبارة أيضا لأنها توحي بقلة أدب مع الملَك المكلَّف بإيقاع الموت؟
وتقول العرب: "عَدسَتْ به المَنيّةُ" بمعنى: ذهبَتْ به. وهذا المعنى قريب من قول من قال "اختطفه الموت". قال الله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) أي: يذهب بها. ولهذا سمت العرب المنية "جِباذ"، من جذب الشيء.
3 - في صحيح البخاري: "باب موت الفجاءة، البغتةِ". قال ابن بطال: "الافتلات عند العرب: المباغتة". فهل فاجأتك هذه العبارة؟! وهل معناها أن الموت يباغت الانسان؟ وهل ملَكُ الموت هو الذي يباغَت أو يفاجئ؟ أم أن الانسان هو الذي يشعر أنه فوجئ وبوغت، كما بيَّن ذلك الحافظ في "الفتح"، في شرحه للفجاءة، حيث قال: " وَهِيَ: الْهُجُوم عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُر بِهِ"؟!
وفي "القاموس المحيط": "فجئه، كسمعه ومنعه، فجأ وفجاءة: هجم عليه". فهل إذا قلنا "فجأه الموت" أو "فجأه ملَك الموت" نكون قد أسأنا الأدب مع الملائكة؟ والجواب: لا، اللهم إلا إذا تبادر إلى ذهننا المعنى المتداول لكلمة "هجم" في اللغة المعاصرة. ولعل هذا هو مدار المسألة برمَّتها ومنشأ استغراب الأخ الفاضل "محمد بن القاضي" حفظه الله. إذ الملاحظ أنه عند تعرضه لألفاظ مثل" اختطاف، واستلاب .. " التفت ذهنه إلى معان أخرى غير المعاني الأصلية لتلك الألفاظ، وغير المعاني المرادة بالسياق في مثل قولهم "اختطفه الموت".
4_ في الباب نفسه من صحيح البخاري: عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأظنها لو تكلَّمَتْ تصدَّقَتْ. فهل لها أجرٌ إن تصدَّقْتُ عنها؟ " قال: "نعم". والافتلات قد يصدم أثر من الاختطاف! فما معنى "افتلت"؟ سأترك القواميس اللغوية العامة والجامعة جانبا، وأكتفي بكتب غريب الحديث، حتى يزول كل إشكال بإذن الله:
_ قال أبو عبيد في "غريب الحديث": "افتلتت نفسها، يعني: ماتت فجأة، لم تمرض فتوصي، ولكنها أُخِذت فلتةً. وكذلك كل أمر فُعِل على غير تمكث وتلبث، فقد افتلت. والاسم منه: الفلتة".
وتأمَّل قوله: "كل أمر فُعِل على غير تمكث وتلبث، فقد افتلت"، فإنه قد يصدمك أكثر من قولهم: "اختطفه الموت".
- قال صاحب "النهاية في غريب الحديث": "وفيه [أن رجُلا قال له: إن أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُها]، أي: ماتت فَجأة وأُخِذَت نفْسُها فَلْتَةً. يقال: افْتَلَتَه إذا اسْتَلَبه. وافْتُلِتَ فُلان بكذا إذا فُوجئ به قبل أن يَسْتِعدّ له". وتأمّل قوله: "يقال: افْتَلَتَه إذا اسْتَلَبه"، وتذكر أن تعريف الاختطاف هو: الاستلاب!!
- وجاء في "غريب الحديث" للخطابي: "يقال: افتلتَّ الشيء، إذا أخذته فجاءةً.
قال الشاعر:
فإن يفتلتها والخلافة تنفلت بأكرم علقي منبر وسرير
ومن هذا حديثه الآخر أن امرأة أتته فقالت: "إن أمي افتلتت نفسها"، أي: أُخِذَت نفسُها فجاءة.
وأخبرني إبراهيم بن عبد الرحيم العنبري نا ابن أبي قماش نا ابن عائشة قال: كان رجل من قريش يقال له "صبيرة"، يقوم على المجالس فيقول: "هل ترون بي بأسا! " إعجابا بنفسه. فبينا هو كذلك، إذ فجئه الموت أصح ما كان. فقيل فيه:
من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيبَ وكان ميتته افتلاتا"
- (وهذا النقل أرجأته إلى الأخير، لـ "أفاجئك" و"أختطف" لُبَّك [وإني لأمزح .. ]) قال صاحب "النهاية في غريب الحديث": "وفيه: [أن رجُلا قال له: إن أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُها] أي ماتت فَجأة وأُخِذَت نفْسُها فَلْتَة. يقال: افْتَلَتَه، إذا اسْتَلَبه. وافْتُلِتَ فُلان بكذا، إذا فُوجئ به قبل أن يَسْتِعدّ له. ويُرْوَى بنصْب النفْس ورَفْعِها. فمعنى النَّصْب: افْتَلَتَها اللّه نفْسَها. مُعَدّيً إلى مفعولين، كما تقول: اخْتَلَسَه الشيء واسْتَلَبه إيَّاه ثم بُنِي الفِعْل لما لم يُسمّ فاعله فتَحَول المفعول الأوّل مُضْمَرا وبَقِيَ الثاني منصوبا وتكون التاء الأخيرة ضمير الأم. أي افْتُلِتَتْ هي نفْسَها. وأما الرَّفْع فيكون مُتَعّديا إلى مفعول واحد أقامه مُقام الفاعل وتكون التاء للنفْس: أي أُخِذَت نَفْسُها فَلْتة".
فتأمّل قوله: "افْتَلَتَها اللّه نفْسَها" ثم أجبني: هل اقشعر جلدك عند قراءتها؟ وهل هي عبارة لا تليق بالله تعالى؟
وفي الأخير: لنأخذ عبارة "اختطفه ملَك الموت" ثم لنقل مكانها "أخذه ملَك الموت بسرعة" أو"بسرعة، ذهب ملَك الموت بحياته". فهل ستصدمنا العبارة الثانية وما تبعها؟ وهل سندرجها في "المناهي اللفظية؟ وأظن أن الجواب عن هذا مفروغ منه، لوضوحه ..
ثم لتنبه جيدا إلى مسألة "المناهي اللفظية" وضوابطها. فقد أسهم فيها قوم بكتابات وضعوها لمجرد الرغبة في الإضافة، فجاءوا فيها بغرائب وطوام. ومنذ فترة ليست بالبعيدة، اطلعت على رسالة مطبوعة لأحدهم، أتى فيها بمسألة يضحك لها الصبيان! حيث اعتبر إحدى العبارات شركا، بناء على فهم خاطئ منه لمدلول تلك العبارة العامية في أحد البلدان العربية. ولنذكر جميعا ما قرره العلماء في شرح قولهم "مُطِرنا بنوء كذا" وحكم استعمال هذه العبارة، فإن فيه كفاية للمخلصين. والحمد لله رب العالمين.
سلامي إلى الأخ "محمد بن القاضي"، جزاه الله خيرا على إثارته للموضوع، ثم على إثرائه. وهبنا الله جميعا العلم النافع، والعمل بمقتضاه، والإخلاص في طلبه، والجود بتبليغه.