والنديم في الفهرست ينص على أن هشاماً هو الذي أمر بقتل الجعد حيث قال: (وقتَلَ الجعدَ هشامُ بن عبد الملك في خلافته بعد أن طال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري. فيقال إن آل الجعد رفعوا قصته إلى هشام، يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد، فقال هشام: أهو حي بعد؟! وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى، وجعله بدلاً من الأضحية بعد أن قال ذلك على المنبر، بأمر هشام .. ). فالروايات التاريخية السابق ذكرها تؤكد أن هشام بن عبد الملك هو صاحب القرار في ذلك.
الوقفة الثانية: لا يُسلم للمؤلف زعمه بأن ترجمة خالد بن عبد الله القسري مظلمة، وفيها ما يفيد أنه كان ظالماً، وليس الأمر كما زعم؛ فالرجل له وعليه، وهناك صفحات مشرقة في تاريخه، وبعض ما نُسب إليه لا يصح عنه. فهذا الذهبي ينصفه ويقول في ترجمته: (الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد ين أسد بن كرز البجلي القسري الدمشقي أمير العراقين لهشام، وولي قبل ذلك مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان، وكان جواداً ممدحاً معظماً عالي الرتبة من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف ... ) وقد اعتذر له بعد أن ذكر شيئاً مما له وعليه فقال: (وكان خالد على هناته يرجع إلى الإسلام).
وقد أشاد الذهبي بقتله للجعد بن درهم وقال: (هذه من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب).
وقد دافع عنه ابن كثير في البداية بعد أن أورد بعضاً من تلك المثالب التي نُسبت إليه وقال: (والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة لأهل البيت).
وحال صاحب كتاب الأغاني الذي اعتمد عليه القاسمي في ترجمة القسري ليس ببعيد عن صاحب العقد الفريد، فقد قال عنه ابن كثير: (وكان فيه تشيع، قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر). والأصفهاني قد روى الكثير من أخبار كتابه عن طائفة من الرواة الكذابين.
وأما عن اتهامه بالنصب وشتم علي رضي الله عنه فأجاب عنه ابن الأثير فقال: (قيل كان يفعل ذلك نفيا للتهمة وتقرباً إلى القوم)، وقال: (وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم).
وفي العموم فإن خالداً القسري ليست ترجمته مظلمة بالصورة التي حاول المؤلف والقاسمي رسمها عنه في ذهن القارئ، وأترك الحكم للقارئ الكريم ليقارن بين كلام الذهبي وابن كثير من جهة - وهما إمامان من أئمة أهل السنة في المعتقد والتاريخ-، وبين كلام صاحب العقد الفريد وصاحب الأغاني - الشيعيين الحاقدين على أعلام أهل السنة-، فأي الفريقين خير مقاماً؟!
الوقفة الثالثة: أساء المؤلف استخدام عبارة الذهبي في السير (5/ 432) حيث قال الذهبي بعد إيراده لقصة قتل الجعد (قلت: هذا من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب)، فقد أراد المؤلف إفهام القارئ أن الذهبي يذم خالد بن عبد الله القسري! والأمر في حقيقته على العكس من ذلك، فلقد أنصف الذهبي خالداً القسري، ولم يقصد بتلك العبارة انتقاصه أو التقليل من حسناته، ومن يقرأ سير أعلام النبلاء، يدرك صواب ما أقول.
وقد شكر علماء المسلمين هذا العمل وأثنوا عليه، وعلى رأس أولئك الحسن البصري.
وقال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ الـ ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كلُ صاحب سنة لله دَرك من أخي قربان
وقال أبو محمد اليمني: (فاستحسن الناس منه ذلك، وقالوا نفى الغل عن الإسلام جزاه الله خيرا ً).
وقال الدارمي: (وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه).
قال المؤلف: (ثالثا: لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا ممن يعتقد العقيدة الحقة، وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه، ولهذا قال بعض المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة). انتهى كلامه.
¥