قلت: لي مع هذه الشبهة وقفات:
الوقفة الأولى: قول المؤلف: (لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا لمن يعتقد العقيدة الحقة).
هذا الطعن في القسري يخالفه قول ابن كثير: (والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد)، وليست أدرى ما موقف المؤلف من كلام هذا الإمام العلم الحافظ ابن كثير؟
الوقفة الثانية: قول المؤلف: (وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه).
الرد عليه: هذه العبارة ليست من كلام المؤلف، وإنما نقلها عن شعيب الأرنؤوط في تعليقه على السير، وعزاها الأرنؤوط إلى بعض الباحثين.
والمؤلف هنا أورد هذه العبارة بطريقة توهم أنها من كلامه! وهي عبارة خطيرة؛ لأنها لم تستثنِ أحداً من خلفاء بني أمية ولا حتى الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، أول خلفاء بني أمية، وكذلك لم تستثنِ عمر ابن عبد العزيز وهو أحد خلفاء بني أمية وعلم من أعلام أهل السنة، و المؤلف ينقل عبارات وينسبها لنفسه وهو لا يدرك مدى خطورتها وفسادها، فمثل هذه العبارة لا تصدر من شخص يحمل عقيدة أهل السنة.
وقد سبق أن تحدثت عن جهود بني أمية الأوائل في الدفاع عن السنة وإطفاء نار أهل الضلال والبدع، والحق يقال إنَّ راية السنة وكلمة علماء السنة كانت هي العليا في تلك الفترة، ولم يكن أهل البدع يتجرأون على إظهار بدعهم فضلا عن أن يدعوا إليها.
الوقفة الثالثة: قال المؤلف (ولهذا قال بعض الباحثين المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة)، وأشار في الحاشية إلى سير أعلام النبلاء (5/ 433).
والجواب عن ذلك: نقل المؤلف هذا الكلام عن شعيب الأرنؤوط من تعليقه على كتاب سير أعلام النبلاء،، فقد قال بعد أن نقل كلام ابن كثير عن الجعد وأنه أخذ مقالته عن اليهود: (قلت -القائل الأرنؤوط- لم يذكر ابن كثير سنده في هذا الخبر حتى ننظر فيه، ويغلب على الظن أنه افتعله أعداء الجعد. ولم يحكموه لأن أفكاره التي طرحها في العقيدة مناقضة كل المناقضة لما عليه اليهود، فهو ينكر بعض الصفات القديمة القائمة بذات الله ويؤولها لينزه الله تعالى عن سمات الحدوث، ويقول بخلق القرآن وأن الله لم يكلم موسى بكلام قديم بل بكلام حادث، بينما اليهود المعروف عنهم الإغراق في التجسيم والتشبيه، ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن قتل الجعد كان لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة، ويعلل ذلك بأن خلفاء بني أمية وولاتهم كانوا أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل تمت إلى العقيدة). انتهى كلام الأرنؤوط، وهو كلام مشحون بالطعن والغمز والافتراء، ولست هنا بصدد الرد على جميع ما ورد في هذا النقل من عبارات باطلة، لكن المقصود الرد على زعم من قال بأن الدافع لقتل الجعد كان سياسياً، وقد شارك علي سامي النشار الأرنؤوط في هذا الزعم والتسويغ لضلالات الجعد وانحرافاته، حيث يقول: (لا نستطيع أن نصدق أن قتله -أي الجعد- كان لآرائه الفكرية، بل يبدو أنه سبب سياسي).
ولكن لم يوضح صاحب الأرنؤوط ولا النشار ما هو الدافع السياسي وراء قتل الجعد! فبقيت دعواهم مجرد استنتاج لا دليل عليه ولا برهان، وهو استنتاج لا يقوم على أساس من الواقع، ويحق لنا أن نسأل: ما هو الدافع السياسي المزعوم؟ وأي ثقل كان الجعد يشكله في الساحة السياسية آنذاك؟ خاصة إذا علمنا أنه من الموالي، والعمل السياسي آنذاك بيد العرب، فهم الولاة وهم القادة وهم أهل الحل والعقد والرأي والمشورة، ولذلك كان يحسب لهم حسابهم في كل تحرك سياسي على عهد الأمويين، ولم يكن للموالي دور سياسي إلا في عهد العباسيين، ولذلك فإن هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت.
والحقيقة أن قتل الجعد كان لزندقته وإلحاده، وفي هذا يقول ابن تيمية: "فضحى بالجعد خالدُ بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وهم بقايا التابعين في وقته: مثل الحسن البصري وغيره، الذين حمدوه على ما فعل، وشكروا ذلك." ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ". انتهى كلام الدكتور محمد التميمي – وفقه الله -. أسأل الله الهداية والتوفيق للجميع.
ـ[ابن وهب]ــــــــ[20 - 01 - 08, 08:38 م]ـ
¥