اعلم أيها المحب ـ علمني الله و إياك ما لا نعلم ـ أن للعلماء ثلاثة أقوال في معنى قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: " و لا صفر "، أقربها إلى الصواب من قال أن المراد به إبطال التشاؤم بشهر صفر [3] نبذا لاعتقاد أهل الجاهلية فيه، و هذا حماية لجناب التوحيد من دنس الشرك، فالتشاؤم هو من جنس الطيرة المنهي عنها في هذا الحديث و في غيره من الأحاديث الثابتة.
1 - قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) ـ رحمه الله ـ في كتابه (لطائف المعارف ص 74 ط دار ابن حزم):
((و أما قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: " و لا صفر "، فاختلف في تفسيره، فقال كثير من المتقدمين: الصفر داء في البطن يقال إنه دود فيه كبار كالحيات، وكانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و ممن قال هذا من العلماء: ابن عيينة و الإمام أحمد و غيرهما. و لكن لو كان كذلك لكان داخلا في قوله: " لا عدوى "، و قد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام، و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى.
و قالت طائفة: بل المارد بصفر شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدهما: أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه، و هذا قول مالك [4].
و الثاني: أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر و يقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك، و هذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك [5].
و لعل هذا القول أشبه الأقوال، و كثير من الجهال يتشاءم بصفر، و ربما ينهى عن السفر فيه، و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها.
و كذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء، و قد روي أنه: "يوم نحس مستمر " في حديث لا يصح، بل في المسند عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: " أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ دعا على الأحزاب يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر "، قال جابر: فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة [6]، أو كما قال. و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة ... )).
ثم قال ـ رحمه الله ـ (ص 75 - 76):
((و أما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، و إنما الزمان كله خلق الله ـ تعالى ـ، و فيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله ـ تعالى ـ كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين "؛ يعني اللسان ... ))، ثم أطال ـ رحمه الله ـ في هذا المعنى و الاستدلال له بما ورد عن السلف الصالح، فانظره فإنه نفيس.
قال الشيخ إبراهيم الحقيل ـ حفظه الله ـ: ((وما ذكره الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ يقع فيه بعض الناس؛ فيمتنعون عن السفر في صفر، أو الزواج فيه، أو الخطبة، أو إجراء العقد. وبعض التجار لا يمضي فيه صفقة؛ تشاؤما به. وهذا كله من الطيرة المنهي عنها، وهو قادح في التوحيد)).
2 - قال العلاّمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت 1285هـ) ـ رحمه الله ـ في كتابه (فتح المجيد ص 324):
((قوله: "و لا صفر" بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية و الناس، و هي أعدى من الجرب عند العرب. و على هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، و ممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد و البخاري و ابن جرير.
و قال آخرون: المراد به شهر صفر، و النفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء و كانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه، و هو قول مالك.
و روى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك.
قال ابن رجب: و لعل هذا القول أشبه الأقوال، و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، و كذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء و تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة)) اهـ.
¥