قلت: و يبدو أن الذي أدي إلى تتابع بعض أرباب الأصول على هذه الدعوى = أسباب عدة منها فيما يظهر لي: تأثر الأصوليين بالافتراضات التي افترضها الإمام الشافعي – رحمه الله – أثناء مناقشته لمسألة عمل أهل المدينة وعلاقته بإجماعهم، وذلك في كتابيه [الرسالة] ص533 طبعة الشيخ أحمد شاكر، و [اختلاف مالك والشافعي] 7/ 218 - 240 حيث يظن من يقرأ كلام الإمام فيهما أن كل عمل لأهل المدينة احتج به مالك – رحمه الله – هو إجماع لهم. أو أن كل خبر لم يأخذ به = إنما لمخالفته إجماع أهل المدينة تركه.
- كثرة احتجاج فقهاء المالكية بإجماع أهل المدينة دون بيان معنى ذلك الإجماع، مما دعا الإمام الباجي إلى أخذ ذلك عليهم فقال في إحكام الفصول 480: (قد أكثر أصحاب مالك – رحمه الله- في ذكر إجماع أهل المدينة والاحتجاج به، وحمل ذلك بعضهم على غير وجهه فتشنّع به المخالف عليه، وعدل عما قرره في ذلك المحققون من أصحاب مالك – رحمه الله -).
- ومن ذلك كثرة عنونة علماء المالكية لكتبهم في بيان حجية عمل أهل المدينة ب (الرد على من أنكر إجماع أهل المدينة) أو (إجماع أهل المدينة) فأوهموا أن محل الحجة كون عمل أهل المدينة كله مجمعا عليه، أو إنما هو حجة من حيث كونه إجماعا، بينما الأمر غير ذلك، وقد ألمح إلى شئ من ذلك أبو العباس القرطبي فيما نقله الزركشي عنه – رحم الله الجميع -.
- ومن ذلك وضع علماء الأصول لمسألة عمل أهل المدينة ضمن مباحث الإجماع، حتى جعلوه في مرتبة إجماع الأمة، قال الباجي - رحمه الله -: (ومما يحتج به أيضا على وجه الإجماع وليس هو بإجماع على الحقيقة، إجماع أهل المدينة فيما طريقه النقل، وإنما هو احتجاج بخبر). المنهاج في ترتيب الحجاج 142.
وجاء بعده ابن خلدون – رحمه الله – فقرر في مقدمته 447 أن: (لو ذكرت المسألة في باب فعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- وتقريره، أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق).
قال القاضي عياض في المدارك 1/ 53: (وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك من ذلك سوى ما قدمناه، فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي: أن مالكا يقول: لا يعتبر إلا إجماع أهل المدينة دون غيرهم. وهذا ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه. وحكى بعض الأصوليين من المخالفين أن مالكا يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعا، ووجه قوله: بأنه لعلهم كانوا عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم، وهذا ما لم يقله مالك ولا روي عنه).
ثم بعد كلام قال القاضي عياض 1/ 55: (ومما ذكره المخالفون عن مالك أنه يقول: إن المؤمنين الذين أمر الله بإتباعهم هم أهل المدينة، ومالك لا يقول هذا، وكيف يقول هذا وهو يرى أن الإجماع حجة.
ومما عارض به المخالفون أن قالوا: إذا سلمنا باب النقل الذي ذكرتم، فما فائدة ذكر الإجماع والعمل، ومتى حصل النقل من جماعة منهم يحصل العلم بخبرهم، ويجب الرجوع إليه وإن خالفهم غيرهم.
فما فائدة ذكركم الإجماع مع الاتفاق على هذا؟
فالجواب أنا نقول: إذا نقل البعض فلا يخلو الباقون، إما أن يؤثر عنهم خلاف أو لا يؤثر ... ) ثم أخذ في بيان ذلك، إلى أن قال – رحمه الله - وهذا المهم 1/ 57:
(قالوا: فإذا تقرر ما بسطتموه، رجع الحكم إلى نقلهم وتواتر خبرهم وعملهم، وبه الحجة، فما معنى تسميته إجماعا؟
قلنا: معناه إضافة النقل والعمل إلى الجميع، من حيث لم ينقل أحد منهم، ولا عمل بما يخالفه.
فان قيل: فقد أحلتم المسألة، وصرتم من إجماع إلى اجتماع على نقل بقول أو عمل؟
فالجواب: أن موجب الكلام لنا في هذه المسألة = مخالفة العراقيين وغيرهم لنا في مسائل طريقها النقل والعمل المستفيض، اعتمدوا فيها على أخبار آحاد، واحتج أصحابنا بنقل أهل المدينة وعملهم المجتمع عليه المتواتر على ترك تلك الأخبار لما قدمناه.
فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول وهذا رد إلى غير الرسول، بل إلى عمل قوم من أمته.
قلنا: بل ما رددناه إلاّ إلى الرسول؛ إذ تقرر عندنا بالنقل المتواتر أن ذلك العمل هو سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعمله وإقراره).
¥