تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولربما يدقر المرء بعد كل ما قدمنا ان هذا التصور للامور يؤدي الى خطر عظيم. فلو فتحنا حرية الاجتهاد بهذا المعيار النسبي الواسع للاهلية وضممنا الى الاصول التفسيرية المنضبطة اصولا اجتهادية واسعة كالمصالح والاستصحاب فان المذاهب عندنا ستختلف اختلافا بعيدا وقد قدمنا الرد الشافي على ذلك في ايضاح دور سلطان المجتمع في اعتماد الآراء المعقولية ووضعها قانونا ملزما من دون سائر الاجتهادات. والحق ان الحذر من مغبات حرية الاجتهاد متمكن منا بدرجة بالغة. والشاهد على ذلك انك حتى في دوائر الذين يدعمون عموما لفتح باب الاجتهاد تجد من يبلغ به الفزع منتهاه اذ صادف رأيا جديدا لم يقل به قائل من السلف. وكأن المقبول في المجتهد هو فقط ان ينقب حتى يجد في المسألة رأيا قديما يناسب الظروف او حجة جديدة تؤيد رأي امام قديم. أما اذا تجرأ المفكر على توليد رأى جديد او فند الآراء القديمة جملة فذلك يدعو للخوف المبالغ فيه على مصائر الدين وانما جعل الاجتهاد نظاما ثابتا في الحياة الدينية بظروفها المتجددة لتتولد الآراء الجديدة استجابة للتحديات المتقلبة واقدار التاريخ المتحركة. ومهما يكن فانكار الجديد هو سنة اجتماعية معروفة وعن طريقه يعمل المجتمع عملية التوازن بين عناصر الثبات وعناصر الحركة لئلا يجمد المجتمع فيموت ولا يعربد فينحرك كذلك. فانكار المحافظين المتزمتين ظاهرة تتحرك في وجه كل اجتهاد جديد وتنشط بقدر هجمة حملات التجديد. وما دمنا في أوضاعنا الحاضرة نعاني من جمود طويل ومن مخلفات اجتهاد مضيع تركت ثغرة كبيرة في نظام احكامنا الفقهية فاننا نستقبل عندما تتحرك حملة تجديد ضخمة تستدرك ذلك الفوات ونحن بذلك شاهدون بغير شك توازن ردة فعل محافظة تحاصر الجديد وتتهمه وتحمل عليه مثل الحملة التي جابهها ابن تيمية وحركته عندما قام ليجدد أمر الدين بعد جموده بضعة قرون فقط، ويستدعي القيام بتكاليف الاجتهاد في مثل ظروفنا جرأة في الرأي وقوة في البصر على ضغوط المحافظين لا سيما ان التجديد لن يكون محدودا بل واسعا يكاد يشكل ثورة فقهية تصلح الاصول مع الفروع وتسعى لتبدل الاحوال بسرعة الذي تذكر بعد غفلة طويلة.

الاعتدال ام الاقدام

وان يكون الاتزان بين الثبات والتطور حكمة مطلوبة فان مخاطبة المجتمع المسلم الحاضر بمعاني المحافظة والحذر من التغيير بقدر مساو لمخاطبته بدواعي النهضية والحركة انما هو في مثل ظروفنا وضع للامور غير مواضعها وسبب لاضرار بالغ بالمجتمع ودينه. والخطاب المناسب لمجتمع نائم خامد قرونا طويلة ان نبادره بالمنبهات ودواعي الحركة الحرة وان نصيح له ان تيقظ! جاهد! اجتهد! حتى اذا جاد بالحركة وتباركت نهضة لدرجة نخشى عليه فيها الجنوح والفوضى عندئذ يجوز ان ندعوه لما هو الاسلم والاحوط. ولكن المسلمين في عهود الانحطاط ركزوا على معاني المحافظة تركيزا شديدا. فالحياة الدينية في عهود الانحطاط منحسرة دائماً تمرق اطرافها من الدين والارض منحسرة تقع أقاليمها في قبضة دار الكفر ولا مطمع للدعاة حينئذ ان يطالبوا الناس بالاقدام في الحياة والارض بل غاية همهم ان يدعوا الى المحافظة: احفظوا ما بقي من دينكم تورعوا من الشرور المخوفة حاذروا من كل جديد فانه لم يأتي الا ببدعة فالسلامة وراءكم والخطر امامكم وظل هذا الشعار تتوارثه العهود وتدعمه بالتربية المتورعة غير المقدامة التي تذكر بالخوف من الله واتقاء الشبهات والمحارم ولا تشفع ذلك كثيرا بالتذكير بالرجاء والندب الى الصالحات والمبادرات وسن السنن الحميدة. وانك ان أردت للمرء ان يتقهقر حذرا خوفته واذا أردته ان يتقدم رجيته في الله والخوف والرجاء شعبتان من الايمان متكاملتان، ولكن عمل الصالحات العلى يجد دوافعه في رجاء الجنة والرضوان وفي معاني التفاني في حب الله وشكره، بينما يجد النهي عن تعدي حدود الله وازعه في الخشية من غضب الله وناره. واستمع ان شئت لامام خطيب جمعة تجده يحاصر الناس بالتخويف ولا يحفزهم بالرجاء الا قليلا وتجده يذكر التقوى اكثر من الجهاد والورع اكثر من عمل الخير. وأقرأ ان شئت لمتأخرة العلماء تجدهم يؤثرون الاسلم والاحوط والاضبط وهكذا…

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير