تبين من النقول السابقة عن الصحابة والتابعين وتابع التابعين والأئمة المرضيين احتجاجهم بالسنة مطلقاً وعدم التمييز بينها، وعدم تقسيمها - كما أُحْدِث فيما بعد – إلى: متواتر وآحاد.
حيث إن الجميع عند أئمة الهدى والتقى سنةٌ واجب اتباعها وقبولها مع ضرورة الانقياد لها لكونها وحياً من الله وما كان كذلك وجب قبوله واعتقاده والعمل به سواء كان في العلميات أو العمليات.
ويكفي العاقل المنصف أن يقنع بما ذُكِر من النقول عن علماء الأمة على قبولها والعمل بها والانقياد لها، و بما نقله العلماء الربانيون من اتفاق السلف وأئمة الدنيا على العمل بالسنة متواترها وآحادها لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات.
قال الإمام الشافعي ([35]) –رحمه الله -:- (وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعض هذا منها. ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل. وقد حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان ….
ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار: كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به. ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه من تحته.
ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي) انتهى باختصار.
وقال ([36]) –أيضاً-: (لم أسمع أحداً -نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم– يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله r ، والتسليم لحكمه. بأن الله عز وجل لم يجعل لأحدٍ بعده إلا اتباعه. وأنه لا يلزم قولٌ بكل حالٍ إلا بكتاب الله أو سنة رسوله r . وأن ما سواهما تبع لهما. وأن فرض الله علينا وعلى الناس من بعدنا وقبلنا، في قبول الخبر عن رسول الله r : واحدٌ. لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله r إلا فرقةٌ، سأصف قولها إن شاء الله تعالى).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ([37]): (وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له،….، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)
المبحث الرابع: في المشهور عند الحنفية
قسم الحنفية الأخبار إلى متواتر ومشهور وآحاد. وجعلوا المشهور في رتبة بين المتواتر والآحاد، وخصوه بأحكام تُلْحِقُهُ في الاحتجاج به بالمتواتر. وفي هذا المبحث سأتكلم باختصار عن المشهور عند الحنفية خاصة لتعلقه بالمسألة المبحوثة، ولأن المشهور عند الجمهور من قبيل الآحاد.
فالمشهور لغة ([38]):- اسم مفعول من شهرت الأمر إذا أظهرته وأعلنته.
واصطلاحاً عرفوه بقولهم ([39]):- هو ما كان من الآحاد في الأصل، ثم انتشر حتى نقله قوم ثقات لا يتهمون ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب، وهم القرن الثاني من بعد الصحابة، ومن بعدهم.
والمشهور هذا يفيد علم الطمأنينة عندهم حتى أنه تجوز الزيادة به على الكتاب ويضلل جاحده ولا يكفر ([40]).
المبحث الخامس: في تحرير موطن النزاع
وذلك ببيان ما المراد بالانقطاع الباطن، وذكر أقسامه وأنواع كل قسم:
يقسم الحنفية الانقطاع الذي يلحق الخبر إلى نوعين رئيسين:- انقطاع صورة، وانقطاع معنى.
أما انقطاع الصورة ففي المراسيل من الأخبار: مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، و مراسيل من بعدهم من القرن الثاني والثالث.
وأما انقطاع المعنى فيقسمونه – أيضاً – إلى قسمين:- انقطاع لدليل معارض، وانقطاع لنقصان في حال الراوي.
ويقسمون القسم الأول - وهو ثبوت الانقطاع في خبر الواحد بدليل معارض - إلى أربعة أوجه:-
الأول:- أن يكون خبر الواحد مخالفاً لكتاب الله تعالى أو للسنة المتواترة أو للإجماع.
الثاني:- أن يكون خبر الواحد مخالفاً لسنة مشهورة عن رسول الله.
الثالث:- أن يكون خبر الواحد حديثا شاذاً لم يشتهر فيما تعم به البلوى
ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته.
الرابع:- أن يكون خبر الواحد حديثاً قد أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول بأن ظهر منهم الاختلاف في تلك الحادثة ولم تجر بينهم المحاجة بذلك الحديث.
¥