فائدة: من غريب ما ذكره عبدالعزيز البخاري الحنفي في كتابه كشف الأسرار حينما أراد الرد على من طعن في ثبوت بعض الروايات السابقة والرد على قدح يحيى بن معين فيها بقوله: هذا حديث وضعته الزنادقة.
قال عبدالعزيز البخاري ([74]): (والجواب أن الإمام أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن وإمام هذه الصنعة فكفى بإيراده دليلاً على صحته ولم يلتف إلى طعن غيره بعد ... ).
قلت:- هذا الكلام يوهم أن البخاري أورده في صحيحه إذ كتابه إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى صحيحه.
وبعد البحث تبيَّن أنه يشير إلى ما ذكره البخاري في التاريخ الكبير ([75]) حيث قال: (سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو سعد قال: ابن أبي أويس ينسب إلى مقبرة، وقال غيره: أبو سعيد مكاتب لامرأة من بني ليث مدني.
وقال ابن طهمان: عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي r: " ما سمعتم عني من حديث تعرفونه فصدقوه "
وقال يحيى: عن أبي هريرة. وهو وهم. ليس فيه أبو هريرة هو سعيد بن كيسان).
فالبخاري رحمه تعالى يشير إلى أن هذا المروي لا يصح لكونه مرسلاً لا أنه كما أوهم عبدالعزيز البخاري بكلامه أن الحديث مروي في الصحيح أو أن البخاري صححه في كتابه التاريخ الكبير أو في غيره.
ثانياً:-لقد عارض هذه الأحاديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله r إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال ([76]).
ثالثاً:-لا يمكن القول بأن معنى تلك المرويات: أن ما صدر عن رسول الله r على نوعين:-
- نوع وافق الكتاب، وهذا يعمل به.
- ونوع خالف الكتاب، وهذا لا يعمل به.
والنوع الأخير لا يمكن القول به عند الجميع لأن الرسول r معصوم بالاتفاق عن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن و يضاده؛ لأن الله قال فيه:) قل إنّما اتبع ما يوحى إليّ من ربي ((الأعراف 203).
وقال –أيضاً -:) إن اتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ((الأحقاف9) وقال تعالى:) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ((النجم 3)
وقال:) قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إليّ ((يونس 15).
فكلٌ يعتقد أن ما صدر عن الرسول r لا يخالف القرآن ([77]).
قال الشافعي ([78]) رحمه الله: (إن الله عز وجل وضع نبيه r من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه.
فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقبل فيما أنزل الله عليه إلا بما أنزل عليه، وأنه لا يخالف كتاب الله، وأنه بيّن عن الله عزَّ وعلا معنى ما أراد الله.
وبيان ذلك في كتاب الله عزَّ وجلَّ: قال الله تبارك وتعالى:) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي ((يونس 15).
وقال الله عزَّ وجلَّ لنبيه r : ) اتبع ما أوحي إليك من ربك ((الأنعام 106). وقال مثل هذا في غير آية.
وقال عزَّ وجلَّ:) من يطع الرسول فقد أطاع الله ((النساء 80).
وقال:) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ((النساء 65).
ثم قال: ولا تكون سنةٌ أبداً تخالف القرآن) انتهى كلامه باختصار.
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه بينها ابن القيم – رحمه الله – أحسن بيان فقال ([79]):-
(أحدها:- أن تكون موافقةً له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.
الثاني:- أن تكون بياناً لما أريد بالقرآن وتفسيراً له.
الثالث:- أن تكون موجبةً لحكم سكت القرآن عن ايجابه أو محرمةً لما سكت عن تحريمه.
¥