ولهذا نظير في الأمور الحسية فنظيره الميزان الذي توزن به الأشيئاء، فإن الميزان الصحيح ما استوت كفتاه وهذه الحالة بمثابة الشك، فإذا وُضِع في إحدى كفتيه أي شيء ما -مهما بلغ في الخفة - فإن الكفة التي فيها ذلك الشيء ستبدأ تدريجياً بالانخفاض والميلان إلى أسفل، وهذه الحالة أشبه بالظن الغالب أو الراجح أي رجحان شيء على شيء آخر، وكلما زِيْدَ في هذه الكفة من الأوزان فإنها ستزداد في الميلان والانخفاض إلى درجةٍ لا يمكن بعدها نزول هذه الكفة أكثر مما نزلت إليه، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة اليقين والقطع.
كذا سائر العلوم أو الأشيئاء المطلوب معرفتها فإنها تبدأ بالوضوح شيئاً فشيئاً حتى تصبح يقينية لا يمكن الشك فيها بوجه من الوجوه. فكما أن الناظر إلى ذلك الميزان لا يمكنه دفع رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، كذا الناظر في خبر الواحد الذي درس سنده فلم يجد ما يقدح في صحته؛ فإنه لا يستطيع حينئذٍ دفع ما يجده في صدوره من اعتقاد صحته ورجحان ثبوته إلا بالهوى والتشهي.
د-إن أخبار الآحاد المضافة إلى الشارع ليست كسائر الأخبار المضافة إلى غيره؛ لأن أخبار الشارع محفوظة عن الضياع أو الاشتباه بالأخبار المكذوبة عليه، بخلاف أخبار الآحاد عن غيره فإنها قد تضيع وقد تشتبه بالمكذوبة ولا تعلم إلى قيام الساعة.
قال ابن حزم ([92]): قال تعالى:) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ((الحجر 9).
وقال تعالى:) وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ((النحل 44).
فصح أن كلام رسول الله r كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل. فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يُحَرَّف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الذي أتانا به محمد r محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا.
قال تعالى:) قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ((الأنعام 19).
فإذ ذلك كذلك فبالضرورة نعلم أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء مما قاله رسول الله r في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز لأحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى:) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ((الحجر 9) كذباً ووعداً مخلفاً وهذا لا يقوله مسلم).
هـ-ومما يزيد الأمر وضوحاً في أن الله سبحانه وتعالى حافظ لوحيه إلى قيام الساعة أنه جل وعلا نصب أئمةً أعلاماً جهابذةً حفاظاً أثباتاً نقاداً للحديث يَمِيزُون الطيب من الخبيث، والصحيح من السقيم، والحق من الباطل. قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة. قال: يعيش لها الجهابذة ([93]).
فمن هؤلاء الجهابذة:- عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت157هـ)، وشعبه بن الحجاج (ت 160هـ)، وسفيان الثوري (ت161هـ)، ومالك بن أنس (ت179 هـ)، وحماد بن زيد (ت179هـ)، وعبدالله بن المبارك (ت181هـ)، و وكيع بن الجراح (ت196هـ)، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ)، ويحيى بن سعيد القطان (ت198هـ)، وعبدالرحمن بن مهدي (ت198هـ)، ويحيى بن معين (ت233هـ)، وعلي بن المديني (ت234هـ)، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه (ت238هـ)، وأحمد بن حنبل (ت241هـ)، وأبو محمد عبدالله الدارمي (ت255هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، ومسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ)، وعبيد الله بن عبدالكريم أبو زرعة الرازي (ت264هـ)، وأبو داود السجستاني (ت275هـ)، وأبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي (ت277هـ).
فهؤلاء الذين لا يختلف فيهم ويعتمد على جرحهم وتعديلهم ويحتج بحديثهم وكلامهم في الرجال والحديث قبولاً أو رداً ….
لاتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك. كما أن الله لم ينزلهم هذه المنزلة إذ انطق ألسنة أهل العلم لهم بذلك إلا وقد جعلهم أعلاماً لدينه، ومناراً لاستقامة طريقه وألبسهم لباس أعمالهم.
¥