قلت: لا خلاف بين أحد من المسلمين في صدق الشق الأول وهو قولهم إن متن الكتاب متيقن، كما أنه لا خلاف بين الأئمة الأربعة وجمهور العلماء في جواز نقل الحديث بالمعنى بما لا يحيل المعنى أو يغيره تغييراً يؤثر على صحة الاستدلال به مما لم نُتَعَبد بلفظه كألفاظ الأذان والإقامة والأذكار والأدعية ([97])، وحينئذٍ فليس هناك كبير فائدة من قولهم لاحتمال النقل بالمعنى؛ لأن الأصل عدم نقله بالمعنى، و لو فُرِضَ -أيضاً - نقله بالمعنى فلا يخلو من أن يكون النقل بالمعنى هو عين المعنى المستفاد من اللفظ النبوي أو لا، فإن كان هو هو سقطت الدعوى، وإن كانت الأخرى فلا يخلو من أن يتكشف خطأ ناقل الحديث إلى معناه الجديد أو لا فإن كُشف الخطأ سقطت الدعوى أيضاً ولزم العمل بالدليل المُبَيِّن، وإن كانت الأخرى فهذا لا يصح فرض وقوعه لما سبق من حكاية الإجماع على أن الله قد تكفل بحفظ دينه و أنه لا يمكن أن تجمع أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم على ضلالة.
ونقول –أيضاً - إن المسألة إنما هي مفروضة في حديث صحيح ثابت منقول إلينا نقل آحاد مروي بلفظه عن رسول الله r ، فإذا كان ذلك كذلك فيجب قبوله لصحته ولعدم وجود ما يقدح فيه.
علماً بأنا قد بينا أن الأخبار المعنية هي الأخبار الصحيحة التي رواها أئمة الحديث والسنة في مصنفاتهم التي سبق ذكرها، لا مطلق الأخبار. وما ذكروه من احتمالات لعدم العمل بها قد سبق بيان وجه بطلانها.
فالواجب أن تفرض المسألة في تعارض خبر آحاد صحيح مروي بلفظه مع كتاب الله، فهل يقبل أو يرفض لمعارضته الظاهرة للكتاب؟!!
والقول بوجوب قبوله هو المتعين لما سبق من أدلة كثيرة على حجية السنة عموماً وأخبار الآحاد على وجه الخصوص. ولأنه يلزمهم في ردهم لأخبار الآحاد حين معارضتها لظاهر الكتاب رد ما ادعوه من قبيل المشهور للعله نفسها. وما يذكرونه من حجج لقبول أحاديثهم المشهورة هي بعينها الحجج الداعية إلى قبول أخبار الآحاد الصحيحة.
قال أبو المظفر السمعاني ([98]): (إنا نظن أن النبي r قال الذي قال في خبر الواحد، وقام لنا الدليل القطعي على العمل بما يغلب على ظننا من ذلك. فكل هذا علم؛لأنا نعلم أنه غلب على ظننا صدق الراوي، ونعلم قيام الدليل على وجوب العمل بما ظنناه، فثبتت مساواة الطريق إلى العلم بحكم الخبر طريقنا إلى العلم بعموم الكتاب).
المسألة الثانية:- في الآثار الفقهية المترتبة على القول بهذا النوع من الانقطاع:
لقد تبين من استعراض أدلة القائلين برد خبر الواحد الذي صح سنده لمخالفته ظاهر الكتاب أنها لم تكن صائبة، ومع هذا كله ترتب على القول بها مسائل فقهيةٍ كثيرةٍ – خلا المسائل العقدية –.
وفي هذا الموطن سأتطرق –إن شاء الله – إلى بعض المسائل المهمة المبنية على هذه القاعدة ذاكراً لها على سبيل المثال تاركاً ذكر أدلة كلٍ والمناقشات التي دارت فيها خشية الخروج عن أصل الموضوع فمن تلك المسائل:-
1 - نقض الوضوء بمس الذكر ([99]).
قال السرخسي: (ولهذا لم يقبل علماؤنا خبر الوضوء من مس الذكر؛ لأنه مخالف للكتاب فإن الله تعالى قال:-) فيه رجال يحبون أن يتطهروا ((التوبة 108) يعني الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهراً.
ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر. فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً)
المناقشة:- يمكن مناقشة ما ذكره السرخسي على النحو التالي:-
أولاً: الحديث الذي أشار إليه السرخسي هو (من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) ([100]) قد ورد بألفاظ متقاربة ومن طرق مختلفة بعضها حسنة وبعضها صحيحة ([101]).
وأما الحديث الذي عارض حديث بسرة فهو حديث طلق بن علي قال: خرجنا إلى نبي الله r وفداً حتى قدمنا عليه فبايعناه وصلينا معه فجاء رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. فقال: (وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك) ([102])
قال الترمذي ([103]): هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب.
وقد ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر ([104]).
¥