وذهب بعض الصحابة والتابعين وبعض الفقهاء كأبي حنيفة والثوري وغيرهما إلى عدم نقض الوضوء بمس الذكر ([105]).
أقول: من هذا العرض الموجز لأقوال العلماء في تصحيح الحديثين أو تضعيفهما أو تصحيح أحدهما دون الآخر ومن ثم اختلافهم في القول بأيهما، تبين أن سبب الخلاف هو هذا لا ما ذكره متأخرو الحنفية من أن سببه هو مخالفة الحديث لظاهر القرآن.
ومما يؤيد أن هذا هو السبب -وهو تصحيح الحديثين أو تضعيفهما أوأحدهما دون الآخر- أن بعض أهل العلم قد جمع بينهما فقال: يحمل ذكر الوضوء في حديث بسرة على غسل اليدين لا الوضوء الشرعي.
قال ابن قتيبة ([106]): (أما عَلِمَ أن كثيراً من أهل الفقه قد ذهبوا إلى أن الوضوء يجب من مس الفرج في المنام واليقظة بهذا الحديث وبالحديث الآخر من مس فرجه فليتوضأ وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك ونرى أن الوضوء الذي أمر به من مس فرجه غسل اليد لأن الفروج مخارج الحدث والنجاسات ... ).
ثانياً: وأما قولهم: (فإن الله تعالى قال:-) فيه رجال يحبون أن يتطهروا ((التوبة 108) يعني الاستنجاء بالماء فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهراً.
ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر. فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً)
فيقال: نعم امتدح الله أهل قباء بذلك. قال الشعبي ([107]): هم أهل مسجد قباء أنزل الله فيهم هذا.
قال رسول الله r : ( يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. فقال رسول الله r : فهل مع ذلك من غيره؟ فقالوا: لا غير إلا أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء.
قال: هو ذاك فعليكموه) ([108]).
قال الحاكم ([109]): حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فالآية امتدحتهم لتطهرهم أي لإزالتهم النجاسة الحقيقية من الفرجين بالماء فهو كتطهير الثياب والأماكن من النجاسات الحسية، لا أن المراد بالتطهر الطهارة عن الحدث فهذا كل الصحابة رضي الله عنهم فيه سواء. وتلك الطهارة لا تزول عن الشخص كما لو أرعف أو خرجت منه ريح بعد استنجائه وحينئذٍ ليس هناك مخالفة بين الحديث والآية.وبهذا يتضح خطأ قولهم: (فالحديث الذي يجعل مسه حدثاً بمنزلة البول، يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهراً).
فإن قالوا: إن الله تعالى جعل الاستنجاء تطهراً مطلقاً فينبغي أن يكون تطهراً حقيقة وحكماً، فلو جعل المس حدثاً لا يكون تطهراً من كل وجه.
قيل: هذا قول ضعيف لأنه يلزم منه أن من أزال النجاسة عن السبيلين أصبح متطهراً أي متوضأ حكماً وهذا لا قائل به أبداً.
2 - المبتوتة نفقتها وسكناها:-
قال السرخسي: (وكذلك لم يقبل حديث فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة للمبتوتة؛ لأنه مخالف للكتاب وهو قوله تعالى:-) أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ((الطلاق 6).
ولا خلاف أن المراد وأنفقوا عليهن من وجدكم، فالمراد الحائل؛ فإنه عطف عليه قوله تعالى:-) وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ((الطلاق 6).
قلت: ورد في هذه المسألة حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها المشار إليه آنفاً، وحديث آخر عن عمر بن الخطاب مما جعل العلماء يختلفون في حكم نفقة وسكنى المبتوتة.
وسيكون بحث المسألة في فقرات على النحو التالي:
1 - روى مسلم في صحيحه ([110]) حديث فاطمة بنت قيس أنهاقالت: إن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله r فذكرت ذلك له، فقال: (ليس لك عليه نفقة).
2 - روى الدارقطني في سننه ([111]) قال: قالت فاطمة بنت قيس: قال رسول الله r:( المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة).
وروى الدارقطني ([112]) عن: (عمر بن الخطاب أنه لما بلغه قول فاطمة بنت قيس قال: لا ندع كتاب الله لقول امرأة لعلها نسيت).
وروى الدارقطني ([113]) – أيضاً – أن عمر رضي الله عنه قال: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا r لقول امرأة لا ندري حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة قال الله تعالى:) لا تخرجوهن من بيوتهن ({الطلاق 1} الآية
¥