يوضح ذلك أنه لو كان حديث فاطمة رضي الله عنها باطلاً لمخالفته كتاب الله لما احتج به الأئمة كلهم في غير هذه المسألة.
قال ابن القيم ([125]): (ولا يعلم أحد من الفقهاء رحمهم الله إلا وقد احتج بحديث فاطمة بنت قيس هذا وأخذ به في بعض الأحكام كمالك والشافعي وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلاً.
والشافعي نفسه احتج به: على جواز جمع الثلاث؛ لأن في بعض ألفاظه (فطلقني ثلاثاً)، وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها.
واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال.
واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول.
واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه وأن ذلك ليس بغيبة.
واحتجوا به على جواز نكاح القرشية من غير القرشي.
واحتجوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر وأنه لا يشترط حضوره ومواجهته به.
واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن.
وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها وصدق حديثها فاستنبطتها الأمة منها وعملت بها فما بال روايتها ترد في حكمٍ واحدٍ من أحكام هذا الحديث وتقبل فيما عداه فإن كانت حفظته قبلت في جميعه وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيء من أحكامه وبالله التوفيق).
3 - القضاء بالشاهد واليمين:-
قال السرخسي: (وكذلك لم يقبل خبر القضاء بالشاهد واليمين؛ لأنه مخالف للكتاب من أوجه:-
فإن الله تعالى قال:-) واستشهدوا شهيدين من رجالكم ({البقرة 282} الآية
وقوله) واستشهدوا (أمر بفعل هو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل: كُلْ. يكون مجملاً فيما يرجع إلى بيان المأكول، فيكون ما بعده تفسيراً لذلك المجمل وبياناً لجميع ما هو المراد بالأمر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، كقول القائل: كُلْ طعام كذا فإن لم يكن كذا فكذا، أو أذنت لك أن تعامل فلاناً فإن لم يكن ففلاناً، يكون ذلك بياناً لجميع ما هو المراد بالأمر والإذن.
و إذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا.
يقرره قوله تعالى:-) وأدنى ألا ترتابوا ({البقرة 282} فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين بهذه الصفة وليس دون الأدنى شيء آخر تنتفي به الريبة.
ولأنه نقل الحكم من استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الشاهد الواحد إلى استشهاد امرأتين مع أن حضور النساء مجالس القضاء لأداء الشهادة خلاف العادة وقد أُمِرْن بالقرار في البيوت شرعاً، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة لما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين وهو خلاف المعتاد مع تمكن المدعي من اتمام حجته بيمينه …).
ويمكن الجواب عما سبق في النقاط التالية: -
1 - الحديث الذي ردوه هو حديث رواه جمع من الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وجابر رضي الله عنهم بلفظ (أن النبي r قضى بيمينٍ وشاهدٍ) ([126]).
قال ابن عبدالبر ([127]): (وفي اليمين مع الشاهد آثار متواترة حسان ثابتة متصلة أصحها إسناداً وأحسنها حديث ابن عباس وهو حديث لا مطعن لأحد في إسناده ولا خلاف بين أهل المعرفة بالحديث في أن رجاله ثقات).
وحق له حكاية ذلك، فقد قال الإمام مالك ([128]): (إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة: أن اقض باليمين مع الشاهد.
وقال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.
قال مالك: مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد).
وروى النسائي ([129]) (أن شريحاً قضى باليمين مع الشاهد الواحد في مسجد الكوفة. وأن عمر بن عبد العزيز قضى باليمين مع الشاهد).
¥