وقد قضى باليمين مع الشاهد قبل هؤلاء جميعاً رسول الله r وصحابته الكرام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وعبدالله بن عمر، ولم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر القضاء باليمين مع الشاهد، وإلىهذا القول ذهب جمهور التابعين:سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبدالرحمن والقاسم بن محمد وعروة وسالم وأبو بكر بن عبدالرحمن وعبيدالله بن عبدالله وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وعلي بن حسين وأبو جعفر محمد بن علي وأبو الزناد وغيرهم، ومن الأئمة: مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم واسحاق بن راهوية وأبو عبيد وأبو ثور وداود بن علي، وجماعة أهل الأثر. ذكر ذلك ابن عبدالبر ([130])، ثم قال ([131]): هو الذي لا يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي r وعمل أهل المدينة به قرناً بعد قرن.
قال الحافظ ابن حجر ([132]): (وفي الباب – يعني القضاء بالشاهد مع اليمين – عن نحو من عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة).
قال ابن عبدالبر ([133]): (فهؤلاء قضاة أهل العراق أيضاً يقضون باليمين مع الشاهد في زمن الصحابة وصدر الأمة، وحسبك به عملاً متوارثاً بالمدينة).
قلت: إن لم يكن القضاء باليمين مع الشاهد متواتراً تصح به الزيادة على القرآن إجماعاً فلا أقل من أن يكون حديثاً مشهوراً على رأي عيسى بن أبان ([134]) ومن تبعه كأبي زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وغيرهم فيعمل به، وإن لم يكن عمل هؤلاء الأئمة الأعلام من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة وغيرهم به، وروايتهم له تستدعي الشهرة فلا شهرة حينئذٍ ولا تواترله إلا إذا حكم بذلك عيسى بن أبان ومن تبعه. فما قاله أو عمل به هؤلاء المنتسبون إلى أبي حنيفة - رحمه الله -فهو المشهور وهو المتواتر وما لا فلا! ... !!
فإن قيل: قد خالف في ذلك إمام المذهب أبو حنيفة والثوري وعطاء وغيرهم ([135]) فقالوا: بعدم القضاء باليمين مع الشاهد الواحد.
قلت: خالفوا لأنه لم يصح عندهم الخبر في ذلك، كيف وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: (ما جاءنا عن الله وعن رسوله فعلى الرأس والعين) لا أنهم يقولون كما يقوله هؤلاء: إن الحديث قد صح عندنا ولكن لا نعمل به لمخالفته كتاب الله. أقول: معاذ الله أن يكون ذلك هو قولهم.
يوضحه قول عطاء ([136]): إن أول من قضى به عبدالملك بن مروان. فهذا دليل على أنه لم يصح عنده فيه شيء لا عن رسول الله r ولا عن صحابته أو التابعين.
وبهذا يتبين خطأ قول السرخسي ومن معه: (كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا).
2 - وأما قوله: (فإن الله تعالى قال:-) واستشهدوا شهيدين من رجالكم ({البقرة 282} الآية
وقوله) واستشهدوا (أمر بفعل هو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود ... ، فيكون ما بعده تفسيراً لذلك المجمل وبياناً لجميع ما هو المراد بالأمر وهو استشهاد رجلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان …
وإذا ثبت أن جميع ما هو المذكور في الآية كان خبر القضاء بالشاهد واليمين زائداً عليه والزيادة على النص كالنسخ عندنا.
يقرره قوله تعالى:-) وأدنى ألا ترتابوا ({البقرة 282} فقد نص على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين بهذه الصفة وليس دون الأدنى شيء آخر تنتفي به الريبة).
فالجواب عن ذلك بأمور منها:
أولاً: - إنه ليس في جعل اليمين والشاهد حجةً دليلٌ على النسخ في هذه الآية؛ لأن الآية ما تعرضت بنفي ولا إثبات، وهذا لأن التخيير بين الشيئين لا يتعرض لما عداهما بتحريم ولا إيجاب، فانتفاء الثالث ليس بحكم الآية بل بحكم أن الأصل فيه الانتفاء. والنقل من الأصل لا يكون نسخاً ([137]).
ثانياً: - إن طرق الحكم شيء وطرق حفظ الحقوق شيء آخر وليس بينهما تلازم فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به حقه ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه ولا خطر على باله من نكول ورد يمين وغير ذلك. قاله ابن القيم ([138]) ثم قال: (قال الشافعي: واليمين مع الشاهد لا تخالف من ظاهر القرآن شيئا لأنا نحكم بشاهدين وشاهد وامرأتين فإذا كان شاهد واحد حكمنا بشاهد ويمين وليس ذا يخالف القرآن لأنه لم يحرم أن يكون أقل مما نص عليه في كتابه. ورسول الله r أعلم بما أراد الله وقد أمرنا الله أن نأخذ ما آتانا
¥