قلت- القائل ابن القيم -: وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يحكم إلا بشاهدين أو شاهد وامرأتين فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك ولهذا يحكم الحاكم بالنكول واليمين المردودة والمرأة الواحدة والنساء المنفردات لا رجل معهن وبمعاقد القمط ووجوه الآجر وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن فإن كان الحكم بالشاهد واليمين مخالفاً لكتاب الله فهذه أشد مخالفةً لكتاب الله منه وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفةً للقرآن فالحكم بالشاهد واليمين أولى ألا يكون مخالفاً للقرآن ...
والقضاء بالشاهد واليمين مما أراه الله تعالى لنبيه r فإنه سبحانه قال:) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ({النساء 105}.
وقد حكم بالشاهد واليمين وهو مما أراه الله إياه قطعاً).
المطلب الثاني: في رد خبر الواحد لكونه مخالفاً للسنة المشهورة
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بها ومناقشتها.
لم يتطرق القائلون بهذه القاعدة إلى أدلتها بخصوصها اكتفاءً بما ذكروه من أدلة في المطلب الأول وهو انقطاع خبر الواحد لمخالفته لكتاب الله تعالى فالأدلة، والمناقشات هي هي، إلا أنهم قد ذكروا وجهاً آخر لرد خبر الواحد لمخالفته السنة المشهورة –باصطلاحهم-فقالوا: إن (خبر الواحد إذا خالف السنة المشهورة فهو منقطع في حكم العمل به؛ لأن ما يكون متواتراً من السنة أو مستفيضاً أو مجمعاً عليه فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به وما فيه شبهة فهو: مردود في مقابلة اليقين، وكذلك المشهور من السنة، فإنه أقوى من الغريب لكونه أبعد عن موضع الشبهة ولهذا جاز النسخ بالمشهور دون الغريب فالضعيف لا يظهر في مقابلة القوي).
ويمكن أن يقال: بأنه ليس هناك تعارض البتة بين الكتاب وصحيح السنة، وقد سبق التنبيه على مثل هذا فليرجع إليه، وأما قولهم إن المشهور من السنة أقوى من الغريب (السنة الآحادية الصحيحة) فهذه القوة لا تمنع من العمل بالخبر الصحيح لا سيما إذا كانت دلالة خبر الواحد قطعية ودلالة المشهور محتملة كأن تكون عامة أو مطلقة أو مجملة.
وقولهم إن الضعيف لا ينسخ القوي فهذا غير مسلم فإن النسخ متعلق بالدلالة لا بالسند فالناسخ صحيح السند –وهذا لابد منه - رافع لدلالة المنسوخ ومبطل لها.
قال الشيخ الشنقيطي ([139]) رحمه الله: (التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه والدليل الوقوع.
أما قولهم إن المتواتر أقوى من الآحاد والأقوى لا يرفع بما هو دونه فإنهم قد غطلوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم، وإيضاح ذلك أنه لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ لإمكان صدق كل منهما في وقته، وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتهما، فلو قلت: النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس، وقلت أيضاً: لم يصل إلى بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده لكانت كل منهما صادقة في وقتها.
ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ إباحة الحمر الأهلية - مثلاً -المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية) قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً … ({الأنعام 145} الآية، بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه لأن الآية من سورة الأنعام وهي مكية أي نازلة قبل الهجرة بلا خلاف، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر ولا منافاة البتة بين آية الأنعام المذكورة وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما، فالآية وقت نزولها لم يكن محرماً إلا الأربعة المنصوصة فيها، وتحريم الحمر الأهلية طارئ بعد ذلك، والطروء ليس منافياً لما قبله، وإنما تحصل المنافاة بينهما لو كان في الآية ما يدل على نفي تحريم شيء في المستقبل غير الأربعة المذكورة في الآية، وهذا لم تتعرض له الآية بل الصيغة فيها مختصة بالماضي لقوله:) قل لا أجد فيما أوحي إلي ({الأنعام 145} بصيغة الماضي، ولم يقل فيما سيوحى إلي في المستقبل، وهو واضح كما ترى، والله
¥