أحدهما: وهو أضعفهما أنه استفهام، استفهم عنه أهل النخيل والمعرفة بالتمور والرطب ورد الأمر إليهم في علم نقصان الرطب إذا يبس.
والقول الآخر: وهو أصحهما أن رسول الله لم يستفهم عن ذلك ولكنه قرر أصحابه على صحة نقصان الرطب إذا يبس ليبين لهم المعنى الذي منه منع.
فقال لهم: أينقص الرطب: أي أليس ينقص الرطب إذا يبس وقد نهيتكم عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل.
فهذا تقرير منه وتوبيخ وليس باستفهام في الحقيقة لأن مثل هذا لا يجوز جهله على النبي r ، والاستفهام في كلام العرب قد يأتي بمعنى التقرير كثيراً وبمعنى التوبيخ، كما قال الله عز وجل:) وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءآنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ({المائدة 116} فهذا استفهام: معناه التقرير وليس معناه أنه استفهام عما جهل جل الله وتعالى عن ذلك.
ومن التقرير- أيضاً- بلفظ الاستفهام قوله عز وجل:) ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون ({يونس 59}
وقوله:) ءآلله خير أم ما يشركون ({النمل 59}.
وقوله:) وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي ({طه 18} وهذا كثير.
وقوله r في هذا الحديث أينقص الرطب إذا يبس نحو قوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه) فإنه قد قال أليس الرطب إذا يبس نقص فكيف تبيعونه بالتمر، والتمر لا يجوز بالتمر إلا مثلاً بمثل، والمماثلة معروفة في مثل هذا فلا تبيعوا التمر بالرطب بحال.
فهذا أصل في مراعاة المآل في ذلك وهذا تقرير قوله r عند من نزهه ونفى عنه أن يكون جهل أن الرطب ينقص إذا يبس وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى وبه التوفيق) انتهى كلامه.
وأما ما نُسِبَ إلى أبي حنيفة رحمه الله من عدم الأخذ بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأنه مخالف للسنة المشهورة وهو قوله عليه السلام:- (التمر بالتمر مثل بمثل) ([161])، فكذب محض فإنه لم يتركه لهذه القاعدة الباطلة وإنما تركه لعدم صحته عنده فقد سئل عن هذه المسألة حينما دخل بغداد فاحتج بحديث النهي عن بيع التمر بالتمر، فأورد عليه حديث سعد فقال ([162]): هذا الحديث دار على زيد أبي عياش وهو ممن لا يقبل حديثه.
يؤيد ذلك قول الحاكم في المستدرك عن حديث سعد: هذا حديث صحيح، والشيخان لم يخرجاه لما خشياه من جهالة زيد أبي عياش.
وأما صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فقد خالفاه في المسألة فقالا بالحديث الذي رواه سعد لصحته عندهما.
وبهذا يتبين فساد ما نُسب ([163]) إلى الإمام وصاحبيه من أنهم قد تركوا حديث سعد لكونه مخالفاً للحديث المشهور.
ولما أعترض على هذه الدعوى بأن الصاحبين قد عملا بحديث سعد وهو مخالف للحديث المشهور، قالوا: إنما عملا به، بناء على أن لفظ المشهور تناول التمر فقط، والرطب ليس بتمر عادةً وعُرْفاً. بدليل أن من حلف لا يأكل تمراً فأكل رطباً أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً لم يحنث،لا أنهما لا يقولان بأن الحديث يرد لمخالفته السنة المشهورة.
فهؤلاء الذين قَوَّلُوا الأئمة مالم يقولوه قد ارتكبوا جناياتٍ لا حصر لها أعظمها نسبة القول إليهم بأنهم قد ردوا سنن المصطفى الصحيحة بأهوائهم، وهذا لا يقوله جاهل فضلاً عمن ينسب نفسه إلى العلم.
المطلب الثالث: في رد خبر الواحد لكونه حديثاً شاذاً لم يشتهر
فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته
وفيه مسألتان:-
المسألة الأولى: في أدلة القائلين بهذه القاعدة ومناقشتها.
إن خبر الواحد الذي صح سنده إذا ورد موجباً للعمل فيما يعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به لا يقبل، عند عيسى بن أبان وأبي زيد الدبوسي والسرخسي والبزدوي وعبدالعزيز البخاري وغيرهم ممن تبعهم ممن ينتسب لمذهب أبي حنيفة رحمه الله محتجين على ما ادعوه بما يأتي:-
قالوا ([164]): (إن صاحب الشرع كان مأموراً بأن يُبَيِّن للناس ما يحتاجون إليه وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم.
¥