تقرير ذلك أن النص و الإجماع إما أن لا يقتضيا ضرراً ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضا شيئا من ذلك فهما موقوفان لرعاية المصلحة، و إن اقتضيا ضررا، ف، ما أن يكون مجموع مدلو لهما ضررا و لابد أن يكون من قبيل ما استتني من قوله (عليه السلام) «لا ضر ولا ضرار» جمعاً بين الأدلة، ولعلك تقول إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله (عليه السلام): «لا ضرر و لا ضرار» لا تقوي علي معارضة الإجماع لتقضي عليه بطريق التخصيص و البيان لأن الإجماع دليل قاططع، و ليس كذلك رعاي ة المصلحة، لأن الحديث الذي دل عليها و استفيدت منه ليس قاطعا فهو أولي، فنقول لك إن رعاية المصلحة أقوي من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها من أدلة الشرع لأن الأقوي من الأقوي، ذقوي و يظهر ذلك من الكلام في المصلحة و الإجماع.
أما المصلحة فالنظر: في لفظها، وَحدِّها، و بيان اهتعمام الشرع بها، و أنها مبرهنة، أما لفظها فهو مفعَلة من الصلاح، و هو كون الشيء علي هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له كالقلم يكون علي هيئة المصلحة للكتابة، و السيف علي هيئة المصلحة للضرب.
و أما حدّها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلي الصلاح و النفع كالتجارة المؤدية إلي الربح، و بحسب الشرع هي السبب المؤدي إلي مقصود الشارع عبادة أو عادة، ثم هي تنقسم إلي ما يقصده الشارع لحق كالعبادات، و إلي ما لا يقصده الشارع لحقه كالعادات.
و أما بيان اهتمام الشرع بها فمن جهة الإجمال و التفصيل، أما الإجمال فقوله عزوجل: (يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم و شفاء لما في الصدور) الآيتين و دلالهما من وجوه:
أحدها قوله عزوجل «قد جاءتكم موعظة» حيث إنه توعدهم و فيه أكبر صالحهم إذفي الوعظ كفهُّم عن الأذي، و إرشادهم إلي الهدي؛
الثاني: و صف القرآن أنه «شفاء لما في الصدور» يعني من شك و نحوة و هو مصلحة عظيمة:
الثالث: و صفه للهُدَي؛ الرابع: و صفه بالرحمة، و في الهدي و الرحمة غاية المصلحة:
الخامس: إسناد ذلك إلي فعل الله عزوجل و رحمته، ولا يصدر عنهما إلا مصلحة عظيمة:
السادس: الفرح بذلك لقوله عزوجل: «فبذلك فليفرحوا» و هو في معني التهنئة لهم بذلك، و الفرح و التهنئة دنما يكونان لمصلحة عظيمة؛ السابع قولله عزوجل: «هو خير مما يجمعون» والذي يجمعونه هو من مصالحهم. فالقرآن و نفعه أصلح من مصالحهم، و الأ صلح من المصلحة غاية المصلحة.
فهذه سبعة أوجه من هذه الأية تدل علي أن الشرع راعي مصلحة المكلفين واهتم بها، ولو استقرأت النصوص لوجدت علي ذلك أدلة كثيرة.
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص و الإجماع دليلا لهم علي معرفة الأحكام؟ قلنا هو كذلك، و نحن نقول به في العبادات، و حيث و افق المصلحة في غير العبادات، و إنما ترجح رعاية المصالح في المعاملات حق الشرع، و لا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصآ و إجماعا.
و أما التفصيل فقيه أبحاث:
البحث الأول: في أن أفعال الله عزوجل معللة أم لا؟ حجة المثيت أن فعلا لا علة له عبث، و الله عزوجل منزه عن العبث، ولأن القرآن مملوء من تعليل الأفعال نحو «لتعلموا عدد السنين و الحساب» و نحوه، و حجة النافي أن كل من فعل فعلا لعلة فهو مستكمل بتلك العلة مالم يكن له قبلها فيكون ناقصاً بذاته كاملا بغيره، و النقص علي الله عزوجل محال، و أجيب عنه بمنع الكلية، فلا يلزم ما ذكروه إلا في حق المخلوقين، و التحقيق أن أفعال الله عزوجل معللة بحكم غائية تعد بنفع المكلفين و كما لهم، لا بنفع الله عزوجل لا ستغنائه بذاته عما سواه،
البحث الثاني: أن رعاية المصالح تفَضُّلٌ من الله عزوجل علي خللقه عند أهل السنة، واجبة عليه عند المعتزلة، حجةُ الاولين أن الله عزوجل متصرف في خلقه بالملك، و لا يجب له عليه شيء، و لان الإيجاب يستدعي موجباً أعلي، ولا أعلي من الله عزوجل يوجب عليه، حجة الآخرين أن الله عزوجل كلف خلقه بالعبادة فوجب أن يراعي مصالحهم، إزالة لعلهم في التكليف، و إلا لكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق أو شبيها به، و أجيب عنه بأن هذا مبني علي تحسين العقل و تقبيحه و هو باطل عند الجمهور.
¥