و الحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عزوجل، حيث التزم التفضل بها لا واجبة عليه كما في آية، «إنما التوبة علي الله» فإن قبولها واجب منه لا عليه، و كذللك الرحمة في قوله عزوجل «كتب ربكم علي نفسه الرحمة» و نحو ذلك.
البحث الثالث: في أن الشرع حيث راعي مصالح الخلق، هل راعاها مطلقا، أو راعي أكملها في بعض و أسفلها في بعض؟ أو أنه راعي منها في الكل ما يصلحهم و ينتظم به حلهم؟ الأقسام كلها ممكنة.
البحث الرابع: في أدلة رعاية المصلحة علي التفصيل، و هي من الكتب، و السنة و الإجماع، و النظر، و لنذ كر من كل منها يسيراً علي جهة ضرب المثال، إذ اسقاصاء ذلك بعيد المنال.
أما الكتاب فتحو قوله تعالي: «ولكم في القصاص حياة. و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما، الزانية و الزاني فاجلدو اكل واحد منهما مائة جلدة». و هو كثير، و رعاية مصلحة الناس في نفوسهم و أموالهم و أعراضهم مما ذكرتاه ظاهر، و بالجملة فما من آية من كتاب الله عزوجل، إلا و هي تشتمل علي مصلحة أو مصالح كمامة ينتها في غير هذا الموضع.
و أما السنة فنحو قوله عليه الصلاة و السلام: (لا يبع بعضكم علي بيع بعض، و لا يبع خاضر لباد، ولا تتكح المرأة علي عمتها أو خالتها إنكم أذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) و هذا و نحوه في السنة كثير، لأنها بيان الكتاب، و قد بيناً اشتمال كل آية منه علي مصلحة، و البيان علي وفق المبين.
و أما الإجماع فقد أجمع العلماء إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية علي تعليل الأحكام بالمصالح المرسلة، و في الحقيقة الجميع قائلون بها، حتي الخالفون في كون الإجماع حجة قالوا بالمصالح، و من ثم علل وجوب الشفعة برعاية حق الجار و جواز السلم و الإجارة بمصلحة الناس مع مخالفتهما للقياس، إذ هما معاوضة علي معدوم وسائر أبواب الفقه و مسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق لعلل المصالح.
و أما النظر فلا شك عند كل ذي عقل صحيح، أن الله عزوجل راعي مصلحة خلقه عموما و خصوصا، أما عموما ففي مبدئهم و معاشهم، أما المبدأ فحيث أوجدهم بعد العدم علي الهيأة التي ينالون بها مصالحهم في حياتهم، و يجمع ذلك قوله عزوجل «يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ماشاء ركبك» و قوله عزوجل: «الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي» و أما المعاش فحيث هيأ لهم أسباب ما يعيشون به ويتمتعون به من خلق السموات و الأرض و ما بينهما و جميع ذلك في قوله عزوجل: «ألم نجعل الأرض مهادا، إلي قوله: إن يوم الفصل كان ميقاتا» و في قوله عزوجل: «فلينظر الإنسان إلي طعامه أنا صببنا الماء صبا» إلي قوله عزوجل «متاعاً لكم و لإنعامكم».
و أما خصوصا فرعاية مصلحة العباد السعداء حيث هداهم السبيل، و وفقهم لنيل الثواب الجزيل، في خير مقيل.
و عند التحقيق إنما راعي مصلحة العباد عموماً، حيث دعا الجميع إلي الإيمان المجوب لمصلحة العباد، لكن بعضهم فرط بعدم الاجابة بدليل قوله عزوجل: «و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمي علي الهدي»، تحرير هذا المقام، أن الدعاء كان عموماً و التوفيق المكمل للمصلحة، المصحح لوجمودها، كان خصوصا، بدليل قوله عزوجل: «و الله يدعو إلي دار السلام و يهدي من يشاء دلي صراط مستقيم» فدعا عامّا، و هدي و وفق خاصاَ إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله عزوجل مصلحة خلقه في مبداهم و معادهم و معاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم فكانت بالمراعاة أولي، ولأنها أيضامن مصلحة معاشهم، لأنها صيانة أموالهم و دمائهم و أعراضهم، و لا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم. و إذا ثبت رعايته إياها، لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه. فإن و افقها النص و الإجماع و غير هما من أدلة الشرع فلا كلام. و إن خالفها دليل شرعي، وُفق بينه و بينها بما ذكرنا، من تخصيصه و تقديمها بطريق البيان.
و أما أن رعاية المصلحة مبرهنة، فقد دل عليه ما ذكرناه من اهتمام اشرع بها وْ أدلته.
«ثم قال الطوفي بعد بيانه الإجماع و إدلته و معارضتها»:
و مما يدل علي تقديم رعاية المصلحة علي النصوص و الإجماع علي الوجه الذي ذكرنا وجوه.
¥