لهذا قال عزوجل: «الله نزلب أحسن الحديث كتابً متشابهاً» أي يشبه بعضه بعضا، و يصدق بعضه بعضا، لا يختلف إلا بما فيه من المتشابهات، و هي ترجع إلي المحكمات بطريقها، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفيادة من قوله عليه الصلاة و السلام «لا ضر و لا ضرار» علي ما تقرر لا تحد طريق الحكم و انتفي الخلاف.
فان قيل هذه الطريقة التي سلكتها، إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها، أولاد، فان انحصر، لزم أن الأمة من أول الإسلام إلي حين ظهور هذه الطرية علي خطأ، إذلم يقل بها أحد منهم، و إن لم ينحصر فهي طرية جائزة من الطرق، ولكن طريق الأئمة التي اتفقت الأمة علي اتاعها أولي بالمتابعة لقوله عليه الصلاة و السلام «اتبعوا السواد الأعظم فان من شذ شذ في النار».
فالجواب أنها ليست خطأ لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعاً، بل ظناً واجتهادا، و ذلك يوجب المصير إليها، إذا الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها. و ما يلزم علي هذا من خطأ الأمة فيما قبله، لازم علي رأي كل ذي قول، أو طريقة انفرد بها، غير مسبوق إليها، و السواد الأعظم الواجب إتباعه هو الحجة و الدليل الواضح، و إلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم لأن العامة أكثر، و هو السواد الأعظم.
و اعلم أن هذه الطريقة هي التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور، ليست هي القول بالمصالح المرسلة علي ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، و هي التعويل علي النصوص و الإجماع في العبادات، و امقدرات، و علي اعتبار المصالح في المعاملات، و باقي الاحكام.
و تقرير ذلك أن الكلام في أحكام الشرع، إما أن يقع في العبادات و المقدرات و نحوها، أو في المعاملات و العادات و شبها، فإن وقع في الأول، اعتبر فيه النص و الإجماع و نحو هما من الأدلة.
غير أن الدليل علي الحكم إما أن يتحد، أو يتعدد، فإن اتحد مثل إن كان فيه اية، أو حديث، أو قياس، أو غير دلك، ثبت به. و إن تعدد لدليل مثل إن كان آية، أو حديث، أو قياس، أو غير دلك، ثبت به. و إن تعدد لدليل مثل إن كان آية و حديثا و استصحابا و نحوه، فإن اتفقت الأدلة علي إثبات أو نفي ثبت بها. و إن تعارضت فيه، فإما تعارضا يقبل الجمع أولا يقبله، فإن قبل الجمع جمع بينهما، لأن الأصل في أدلة الشرع الإعمال لا الا لغاء، غير أن الجمع بينهما يجب أن يكون بطريق قريب واضح، لا يلزم منه التلاعب ببعض الأدلة، و إن لم يقبل الجمع فلا جماع مقدم علي ما عده من الأدلة التسعة عشر، و النص مقدم علي ما سوي الا جماع، ثم إن النص منحصر في الكتاب و السنتة، ثم لا يخلو إما أن ينفرد بالحكم أحدهما أو يجتمعا فيه، فان انفرد به أحدهما فإما الكتاب أو السنة، فإن النفرد به الكتاب، فإما أن يتحد الدليل أو يتعدد، فإن اتحد بأن كان في الحكم آية واحدة عمل بها، إن كانت نصاً أو ظاهرا فيه، و إن كانت مجملة، فإن كان أحد احتماليها أو احتمالاتها أشبه بالأدب مع الشرع، عمل به و كان ذلك كالبيان.
و إن استوي احتمالاها في الأدب احتمالاها في الأدب مع الشرع جاز الأمر ان، و امختار أن يتعبد بكل منهما مرة.
و إن لم يظهر وجه الأدب و قف الأمر علي البيان.
و إن تعدد الدليل من الكتاب فان كان في الحكم منه آيتان أو أكثر، فان اتفق مقتضاهن فكالآية الواحدة، و إن اختلف، فان قبل، الجمع جمع بينهن بتخصيص أو تقييد أو تحوه، و إن لم يقبل الجمع، فان علم نسخ بعضها بعينه فبها، و إلا فالمنسوخ منهما مبهم فليستدل عليه بموافقة السنة غيره، إذا السنة بيان الكتاب، و هي إنما تبين ما ثبت حكمة لا ما نسخ، و إن انفردت السنة بالحكم فإن كان فيه حديث واحد فان صح عمل به كالآية الواحدة، و إن لم يصح لم يعتمد عليه، و أخذَ الحكم من الكتاب إن وجد، و إلا فمن الاجتهاد إن ساغ، مثل أن يعمل بما هو أشبه بالأدب مع الشرع و تظعيم حقه و إن لم يسغ فيه الاجتهاد، و قف علي البيان.
و إن كان فيه أكثر من حديث، فإن صح جميعها، فدما أن تتساوي في الصحة أو تتفاوت، فإن تساوت في الصحة، فان اتفق مقتضاها، فكالحديث الواحد، و إن و أن اختلفت، فان قبلت الجمع، جمع بينها، و إلا فبعضها منسوخ، فان تعين، و إلا استدل عليه بموافقة الكتاب أو الإجماع غيره، أو بعير ذلك من الأدلة.
¥