فإن منع الإجماع لا يعني أن نقف عن تحليل أقوال القبيلين، خصوصاً في مثل هذا الموضع، فإن من تأمل فتاوى المعاصرين من مشاهير الفقهاء؛ لا يتردد في الجزم بأخذهم بالمصلحة المناسبة لتصرفات الشارع، ولو لم يجدوا لها أصلاً خاصاً، وإنما يصرفون فتاويهم بما يُصلح أحوال الناس، وتجدهم يعبرون بقولهم (لا يصلح الناس إلا هذا).
ـ أما عند التنظير فيمكن أن يتمنع بعضهم من البوح بأصل المصالح، ولعله يخشى من تمادي السلاطين وفقهائهم في هذا الباب، بما يخرجهم عن مقتضى الشريعة، كفرض التعشير والتمكيس.
ـ أما قولك: بأن نفاة المصالح من الأئمة المتقدمين فهذا محل الدعوى، وأنا أدعي بأن المتقدمين لم يختلفوا في الأخذ بالمصالح المناسبة، ومن نفاها منهم فإنما قصد ما بعُد عما اعتبره الشارع، دون ما قرب، والأقرب أنهم متفقون على التفصيل، وهو الأخذ بالمصلحة المرسلة إذا كانت قريبة من معاني الأصول الثابتة, وهو المنسوب إلى الشافعي, فإنه مع أخذه بالمصلحة التي لا تستند إلى أصلٍ منصوصٍ أو مجمعٍ عليه, إلا أنه "لايستجيز النأيَ والبعدَ والإفراط, وإنما يسوِّغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً, وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول, قارَّةٍ في الشريعة " البرهان, للجويني (2/ 721) ..
ومما قاله القرافي ـ كما تفضلتم ـ: " وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصةٌ بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب " شرح تنقيح الفصول، للقرافي (394)، وانظر: الذخيرة، له أيضاً (1/ 129).
وعليه فليحمل قول من منعها على المصالح [الغريبة]، التي لا يعلم إلغاؤها ولا اعتبارها بوجهٍ من الوجوه، وثمةَ سببٌ آخر وهو اختلافهم في عدها دليلاً مستقلاً كما صنع المالكية، أو إدراجها تحت دليلٍ متفقٍ عليه كالقياس عند الجمهور، أو أن يقال بإرجاعها إلى مقصود الشارع الذي يدل عليه الكتاب والسنة والإجماع، على ما ذهب إليه الغزالي.
وخلاصةُ القول أن عامة الفقهاء يحتجون بالمصلحة المرسلة بالشروط الآتية:
أولاً: أن تكون ملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية استقرئت من مجموع النصوص.
ثانياً: ألا تصادم نصاً خاصاً.
ثالثاً: أن تكون معقولة المعنى في ذاتها.
رابعاً: أن يكون الذي يفرع الأحكام عليها مجتهداً، توفرت فيه شروط الاجتهاد) اهـ. وانظر: انظر: الموافقات، للشاطبي (2/ 306)، الاعتصام، له (2/ 129)، شرح تنقيح الفصول، للقرافي (446)، المصالح المرسلة، د. محمد بو ركاب (201).
ـ أخيراً: هذا اجتهادٌ مني، وأستغفر الله أن يفهم عني القدح في أحدٍ من أهل العلم الذين لا أزن عشر معشار واحدٍ من تلاميذهم، كيف والعلم رحمٌ بين أهله، وعهدٌ بين ربعه!
ـ[ابن وهب]ــــــــ[08 - 04 - 04, 01:25 م]ـ
شيخنا الحبيب الفقيه النجدي
قلتم وفقكم الله
(ومما قاله القرافي ـ كما تفضلتم ـ: " وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصةٌ بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب " شرح تنقيح الفصول، للقرافي (394)، وانظر: الذخيرة، له أيضاً (1/ 129).)
القرافي رحمه الله كان مالكيا والمالكية من أشهر من يقول بالمصالح المرسلة
فالقرافي والقرطبي وغيرهما أرادوا الدفاع عن مذهب المالكية
وبيان ان هذا المذهب اعني القول بالمصالح هو قولكم جميعا
فكيف بكم تنكرون علينا المصالح المرسلة
ومثل هذا الكلام يقوله الحنفية ايضا في الاستحسان
فيقولون لخصموهم الشافعية انكم تقولون بالاستحسان
بدليل انكم ويذكرون مسائل يحملونها على الاستحسان
ثم انهم قد يفسرون الاستحسان بمعنى قد يوافقهم الخصوم على ذلك
والأمر كما قال الغزالي
(ولا حجر في المصطلحات بعد فهم المعاني)
ولكن الشافعية ينكرون على المالكية قولهم بالمصالح المرسلة
وينكرون على الحنفية قولهم بالاستحسان
فالنزاع هو في تعريف المصالح المرسلة وفي تعريف الاستحسان
لانهم لايوافقونهم في هذه الأدلة
وانتم ذكرتم وفقكم الله
(وهكذا الظنُّ في كل من أنكر حجية المصالح في الشريعة؛ الظنُّ أنه لم يفقهها على وجهها، فلم يلتقِ المثبتون والنافون على محزٍّ.
)
ولكن الخصم لايقول بان هذا من المصالح المرسلة
ينازعك في ذلك
وكذا يقول نفاة القياس لخصومهم
بانكم تقولون بالقياس
ولكنهم في الواقع ينكرون ذلك
وما يراه بعض اهل القياس من القياس لايعتبر قياسا عند نفاة القياس
بل يرجعون ذلك الىاصلهم
فلا يبقى لنفاة القياس اي حجة يلزمونهم بها
لانهم لايعتبرون ذلك الدليل من القياس
وهكذا الأمر هنا في المصالح والاستحسان
وانا أوافق الشيخ عصام البشير وفقه الله في هذه العبارة
(ومما ينبغي أن يعلم أن المعاصرين هم الذين أكثروا الاحتجاج بالمصالح، حتى أحيى بعضهم مذهب الطوفي - إن صحت نسبته إليه - وبنوا على المصالح القصور والعلالي. حتى أصبح من ينكر المصلحة المرسلة مخالفا لما يشبه الإجماع، مع أن له - عند التحقيق - سلفا أصيلا.
)
فكلامه عن المعاصرين صحيح
فلهم توسع في مسألة المصالح المرسلة
والله أعلم
¥