ـ[عبد الرحمن بن طلاع المخلف]ــــــــ[02 - 06 - 04, 07:58 م]ـ
المسألة الأولى: و هي مسألة هل يعمل بالعام قبل البحث.
وقع الخلاف في هذه المسألة بين الأصوليين كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال (وانما اختلف العلماء فى العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف فى ذلك أصحاب الشافعي و احمد و غيرهما و ذكروا عن احمد فيه روايتين).
و كلام الشيخ رحمه الله هذا ذكره بعد كلام له في العام الذي كثر تخصيصه فنقل الإجماع على أن العام الذي كثر تخصيصه لا يجوز العمل به حتى يتم البحث عن المخصص قال رحمه الله (و أما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى و هذا ايضا لا خلاف فيه).
فخلص لنا أن الخلاف في مسألة العام الذي لم يخصص أو خصصت بعض صوره هل يعمل به من دون البحث و التنقيب أم يجب البحث و التنقيب؟
أولا يجب أن يعلم أن الله تعالى أمر بتقواه حسب القدرة و الإستطاعة و يدخل في تقواه حسب الإستطاعة العلم بمراد الله تعالى و العلم بهذا المراد لعموم اللفظ بتقوى الله تعالى و لما علم من الدين بالضرورة بتقوى الله تعالى حسب الإستطاعة كما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن: 16).
و قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران: 102).
و هذا أصل عام يدخل فيه البحث عن مخصص لأنه من تقوى الله تعالى.
و قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المشهور (قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"
و هذا الأصل العام يقدم على استصحاب عموم النص قبل البحث عن مخصص لأن الإستصحاب من أضعف الأدلة بل هو في حقيقته ليس بدليل لأنه تمسك بعدم العلم بالدليل و مثل هذا ينقضه الأصل العام الذي ذكرناه بوجوب الإجتهاد و البحث عن مخصص.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله (أما إذا كان المدرك الاستصحاب و نفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون و علم بالاضطرار من دين الاسلام أنه لا يجوز لأحد ان يعتقد و يفتى بموجب هذا الاستصحاب و النفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فان جميع ما أوجبه الله و رسوله و حرمه الله و رسوله مغير لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر فى أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك) فلما نظرنا وجدنا أن الله تعالى أمر أمرا عاما بوجوب تقوى الله تعالى حسب الإستطاعة و يدخل في هذه التقوى البحث عن مخصص للعموم فمن قال بغير ذلك فعليه بدليل خاص لإخراج العمل بالعموم من تقوى الله حسب الإستطاعة.
و أما الإحتجاج بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعلمون بالعموم قبل البحث عن المخصص فهذه من أعظمم الفرى على الصحابة رضي الله عنهم فهم رضوان الله عليهم من أشد الناس بحثا عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم و تفتيشا عنها و عندهم من العلم بسنة النبي صلى الله عليه و سلم ما ليس عند المتأخرين و لا يعني هذا أنه لا يخفى عليهم شئ من سنة النبي صلى الله عليه و سلم و لكن قد جمعوا من سنة النبي صلى الله عليه و سلم ما يبين بعضه بهضا و اجتهدوا في ذلك و لو خفي عليهم بعضه فلهم أجر على ذلك بخلاف المتاخرين الذين لم يتلقوا الوحي غضا طريا فهم يتلقونه عن طريق أفواه أهل العلم فمتى اجتهدوا و استفرغوا و سعهم كان حكمهم حكم الصحابة رضي الله عنهم.
لذا قال شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد رحمه الله (ذكروا عن احمد فيه روايتين و أكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه و نحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة و أقوال الصحابة و التابعين).
و هنا مسألة أخرى لها متعلق قوي و هي عل يشترط للعمل بالعام الجزم لعدم وجود المخصص نقول أنه ليس من شرط العمل بالعام بعد البحث الجزم بعدم وجود المخصص بالعمل بالعام بعد البحث هو عمل بالدليل و من أستفرغ و سعه و غلب عل ظنه عدم وجود المخصص وجب عليه العمل بالعام فكما أن يجوز العلم بالمطلق مع غلبة الظن من عدم وجود المقيد و العمل بالنص بعد غلبة الظن من عدم وجود الناسخ كذلك يجب العلم بالعام بعد البحث و استفراغ الوسع و غلبة الظن من عدم وجود المخصص و غلبة الظن هنا حكمها حكم الجزم بعدم وجود المخصص فهي من العلم بعدم وجود المخصص عند من اجتهد لا من عدم العلم بوجود المخصص كما هو حال الإستصحاب.
و ما رجحناه من أنه يجب البحث عن المخصص في النص العام الذي لم يرد عليه مخصص او خصصت بعض صوره هو ترجيح شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله (وانما اختلف العلماء فى العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف فى ذلك أصحاب الشافعي و احمد و غيرهما و ذكروا عن احمد فيه روايتين و أكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه و نحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة و أقوال الصحابة و التابعين و غيرهم و هذا هو الصحيح الذى اختاره أبو الخطاب و غيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فاذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه و هذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين فى اكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض).
و الله أعلم.
¥