وقال الأصمعي: ما أعاني إلا المنفرد. يعني: المتخصص عند المناظرة.
فالساحة العلمية اليوم أحوج ما تكون إلى المتخصصين المدققين في جميع مجالاتها وفنونها، خاصة فيما يحفظ لها خصوصيتها وما تنفرد به من بين ثقافات الأمم، ولا ريب أن علم أصول الفقه هو السد والحصن الحصين لكل من تسوِّل له نفسه الطعن في أصل من أصول التشريع الإسلامي، إذ به تنضبط الأدلة وطرق الاستدلال بها، فهو علم جم الفوائد، مكانته تنبثق من أصول رسالتنا الخالدة، المتمثلة في الكتاب والسنة، وكل ما يتصل بهذين بسبب ونسب،
بحاجة إلى بذل الجهد وصرف الأوقات في خدمته. ولا سِيَّما إذا علم أن أصول الفقه غزير المادة،كثير الشعب والمسالك، لهذا كثر فيه الخلط والغث، وعزّ فيه التحقيق، مع كثرة التصنيف وادعاء التجديد.
فهو علم لا يمكن الإضافة فيه، وتقويم هذه الجهود المتكاثرة، وبناء منهج راسخ البنيان، قوي الاعتماد والصلة، بتراثنا الذي لا يتغير ولا يتبدّل، بفهم سلفنا الصالح أصحاب القرون المفضلة = إلا بالانقطاع له والتخصص فيه. وهذا من أكثر ما يحتاج له هذا العلم في هذه الأزمنة، وفي تقديري لا يمكن خدمته الخدمة التامة إلا بما ذكرت. والله أعلم.
ومن القضايا المهمة كذلك للمتخصصين في هذا العلم أمور منها:- الرجوع إلى العلوم الشرعية التي لها علاقة بالأصول. فإن على طالب علم الأصول أن يتنبه غاية التنبه إلى أن هذا الفن أثّر في بناء بعض قواعده جملة من العلوم الشرعية، كالمصطلح، والنحو، والبلاغة، واللغة وغيرها، فعلى الدارس للأصول أن لا يهمل تحقيقات وتقريرات المتخصصين في تلك العلوم، ولا سِيّما إذا كانت مخالفة لما هو مقرر عند الأصوليين.
- كذلك على المتخصص في هذا الفن أن يكون على وعيٍ وبصيرة بما دخل في هذا الفن وعلق به من أو ضار من جرّاء المتكلمين والمناطقة، فقد مزجوا قواعد هذا العلم بكثير من قواعدهم العقيمة، فدخلوا في أودية سحيقة، وطرق ملتوية من علم الكلام وعلم المنطق، لا تنتج مع طول البحث والتنقيب علماً ولا معرفة. وعلى المتعلم أن يكثر من علامات الاستفهام ببعض المسائل في هذا العلم، من أبرزها: تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد، وتقسيم الأدلة إلى قطعية وظنية، دلالة العموم .... الخ.
- كذلك على المتخصص الصبر والمواصلة في تحصيل هذا العلم، فإنه بطيء الثمرة، خاصة مع قلة التطبيق. (لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا)
وبعد: فهذه محاولة لوضع منهج للمتخصصين في هذا الفن.
أعرضه لك في نقاط منها:
- بعض العلماء يحبذ لو كان لدى طالب علم الأصول: تصور مجمل لمسائل الفقه، لو لم يكتفي في ذلك إلا بأقل مختصر في مذهبه، كمختصر القدوري للأحناف، ومختصر خليل للمالكية، ومتن أبي شجاع للشافعية، والعمدة للحنابلة.
قالوا: بأن ذلك يعين على معرفة تأصيل الأصول، واستفادة الفروع من الأصول، وهذا قد ينازع، كما قال بعضهم: للدور، (وهو توقف كل واحد من الشيئين على الآخر) والأمر في هذا سهل. (فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق)
- المرحلة الأولى: في هذه المرحلة يحتاج فيها الطالب إلى معرفة مجملة وتصور عام عن هذا الفن، وهذا يحصل بأقل متن فيه، فإذا كان الطالب في حدود المرحلة (الثانوية) فإنه قد يُحفَّظ في هذا السن، متن مختصر في الأصول، أو على أقل تقدير يضبطه ضبطا جيدا، كمختصر المنار لا بن حبيب، أو الورقات، أو مختصر تنقيح الفصول للقرافي، أو الرسالة اللطيفة لابن سعدي، أو كتاب ابن عثيمين، ويحسن ذلك على يدي شيخ أو طالب علم. فإن هذا يعطيه على أقل تقدير الخطوط العريضة والأبواب الرئيسية لمباحث الفن. وأعتقد جازما أن كتاب "الواضح" للأشقر مفيد جدًا في هذه المرحلة.
(تمهيد في المنطق)
- قبل المرحلة الثانية، قد يحسن بطالب علم الأصول، معرفة المقدمات الأساسية في علم المنطق، وهذا في غاية الأهمية للمتخصص، ودعك من الذين يقللون من هذا الأمر لفرضيات ذهنية لا حقيقة لها في الخارج، فإن الواقع شيء، والمفترض شيء آخر. فمن نظر في علم الأصول أدرك أن العلاقة بينه وبين المنطق تتجاوز التأثير إلى الاندماج. فهما كما قال بعض العلماء: علاقة فرع بأصل. على ما قد يكون في هذه العبارة من مبالغة، إلا أنها تكشف عن بيان حال الكتب الأصولية، فمن أراد أن يخوض غمار هذا البحر المتلاطم – من كتب الأصول من لدن الجصاص والباقلاني إلى
¥