3 - المجلس والجمهور: يبدو جلياً أن مناظرات الباجي كانت تتم على مرأى من الجمهور ومسمعه سواء أكان من الخاصة أم من عامة الناس.
أما بالنسبة لآدابها:
أولاً: تقوى الله عز وجل، فهو يرى أن الغاية من الجدل هو طلب الحق وتوفيقه لادراكه، وليس المباهاة والمفاخرة.
ثانياً: الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم الضرورية.
ثالثاً: التوقر في الجلوس وعدم العبث باليد او اللحية، فان ذلك يذهب بالوقار، وعدم الاكثار من الصياح او اخضاع الصوت.
رابعاً: الاقبال على الخصم تأدباً وحسن الاستماع اليه، للافادة من كلامه في ترتيب البراهين.
خامساً: عدم الكلام فيما لم يقع العلم به، او الاستدلال بما لم يمعن فيه النظر.
سادساً: الاختصار وسهولة اللفظ، والبعد عن التكلف والتنميق ووضوح العبارة.
سابعاً: عدم الكلام في حال الجوع او العطش أو الخوف أو الغضب "148 ".
قال غريمه ابن حزم فيه: " لو لم يكن لاصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب الا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم.
3 - فوائدها:
تعد المناظرة صورة من صور تلقي العلوم.
وتكمن الافادة من هذه المناظرات العلمية كونها تتم على مرآى من الشهود والحضور المهتمين ومسمعهم، وفائدة عظيمة بالنسبة للعالم المناظر والجمهور المستمع، فهي تعود العالم المناظر طلاقة اللسان والجرأة الأدبية، وحتى يتجنب المناظر الوقوع في الحرج لا بد له من سعة اطلاع وذاكرة فياضة، وذلك كون الموضوعات التي يتم نقاشها ومعالجتها في غاية الدقة واللطف , كما أن الاجابة عن الاسئلة التي يطرحها كل عالم على مناظره تكون وافية شاملة مدعمة بالحجج والبراهين التي من شأنها افحام المناظر السائل واسكاته.
ومن فوائد هذه المناظرات أيضاً أن كل مناظرة تجرى يمكن أن تشكل بحثاً قائماً بذاته، ويمكن للعالم المناظر أن يجمع آراءه وآراء منافسه في كتاب ويجعل منه مادة تدرس في حلقة الدرس، تماماً كما فعل الباجي في كتابه " فرق الفرق " فهو عبارة عن مجموعة من المجالس التي ناظر فيها ابن حزم وغيره.
4 - مضارها:
المناظرة لا تخلو من أخطار ومحاذير فهي تتم بين شهود وأمام جمع من الناس، لذا فان العالم المنقطع يشعر بضيق وحرج شديدين، وقد يحقد على خصمه ويبغضه، ويحاول ايقاع الاذى به، وقد تنتقل هذه العداوة إلى الجمهور المستمع، فتتعصب مجموعة إلى هذا العالم وأخرى إلى ذاك، وقد تتسع شقة الخلاف فيتدخل في الأمر الحاكم نفسه، فيصدر حكماً من شأنه أنْ يخفف من تأجج ثورة، تماماً كما فعل المعتضد بن عباد إرضاءً للشعب، حيث قام بنفي ابن حزم وإحراق مكتبته
5 - نموذج على تلك المناظرات:
وحتى تكتمل صورة المناظرات لدى الباجي، فسوف أعرض لنموذجين اثنين من نماذج تلك المناظرات، الأول يتعلق بمسألة شخصية، والثاني يتعلق بقضية علمية، وهدفي من إيراد النموذج الأول هو التدليل على أن مناظرات الباجي لم تكن كلها مناظرات علمية، فهناك ماهو شخصي، وقد تمت المناظرة على النحو الآتي:
قال الباجي لابن حزم: أنا أعظم منك همّة في طلب العلم، لأنك طلبته وأنت معان عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق.
فرد عليه ابن حزم قائلاً: هذا الكلام عليك لا لك، لأنك إنّما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، لم أرجُ به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة .. "154".
ويعلق المقّري على هذه المناظرة قائلاً: "فأفحمه" وهو يقصد إفحام ابن حزم للباجي وكأني بالمقري قد حكم على الباجي بالهزيمة والانقطاع، والذي أراه خلاف ذلك، إذ لا يوجد في هذه المناظرة غالب أو مغلوب، فكلاهما يعبرعن واقعه الشخصي، ومن حق كل واحد منهما أن يفخر بنفسه وبإنجازاته، وقد نجد من يؤيدالباجي في طرحه، وقد نجد من يؤيد ابن حزم فيما ذهب إليه.
¥