تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما النموذج الثاني، فهو عبارة عن مناظرة جرت بينه وبين مجموعة من فقهاء المالكية بمدينة "دانية" في الأندلس، حول حديث المقاضاة في صلح الحديبية، ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:" لما اعتمر النبيّ- صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم، على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقرُّ لك بهذا، لو نعلمُ أنك رسول الله ما منعناك شيئاً، ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبدالله، ثم قال لعليّ: امحُ رسول الله، قال علي: لا واللهِ لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكتاب- وليس يُحسنُ يكتب – فكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبدالله.

وقد جرت هذه المناظرة على النحو الآتي:

* أخذ الباجي في هذه المناظرة بظاهر لفظ الحديث بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب بيده: هذا ما قاضى محمد بن عبدالله ... ".

* فرد عليه فقهاء المالكية وعلى رأسهم أبو بكر ابن الصائغ بعد أن أظهروا استياءهم: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان أمياً: لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، إذ لو كان ممن يقرأ كتاباً، ويحفظ حروفاً لارتاب المبطلون من أهل الكتاب، لأن في كتبهم أنّه أمي؛ لا يكتب ولا يقرأ، وللتدليل على ما ذهبوا إليه، وحتى يكون ردهم دامغاً شافياً قاطعاً احتجوا بقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تتلُوا مِن قَبْلهِ مِنْ كِتابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لارتْاَبَ الُمبْطِلُونَ) كما احتجوا عليه بما رواه عبدالله بن عمر أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:" إنّا أمَةُ أميةٌ لا نكتبُ ولا نحسُبُ".

* فردَّ عليهم الباجي محاولاً دحض آرائهم والاتيان بحجج دامغة حتى يتمكن من قطعهم فقال: لا منافاة ولا تعارض بين ما ذكره القرآن الكريم وما قدرته من إجازة كتابة النبي الأمي، انطلاقاً من مفهوم الآية السابقة ذلك لأن الله تعالى نفى عنه التلاوة والكتابة بما قبل نزول القرآن الكريم، وتقيّد النفي بذلك، وأما بعد تحقق اميّته، وتقرر معجزته وأمن ارتياب أهل الكتاب، فليس فيه ما يحول دون معرفته الكتابة من غير تعليم أو معلّم، فيصير عند ذلك معجزة ثانية.

وحتى يتمكن الباجي من قطع مناظريه استشهد بمجموعة من الأخبار والأحاديث النبوية الشريفة التي أوضح من خلالها أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحسن الكتابة منها؛: قوله لمعاوية بن أبي سفيان:" ألق الدواة، وحرّف القلم، وأقم الباء، وفرّق السين، ولا تعور الميم " وكذلك ما أخرجة ابن أبي شيبة، وعمر بن شَمّة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال:"ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم –حتى كتب وقرأ" قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق، سمعت من يذكر ذلك" وغيرها من الأحاديث والأخبار التي لا يسمح المكان بذكرها، والتي في الوقت نفسه لم تكن بالنسبة لمناظريه دليلاً قاطعاً من شأنه أن يبدل ما استقر في أذهانهم، فظلت القضية قائمة لفترة من الوقت.

ولعل المطلع على مجريات هذه المناظرة يلاحظ أنه تحقق فيها كل عناصر المناظرات وذلك من توجه المتخاصمين - إن جاز التعبير - في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب، فمطلب الباجي هنا مغاير لمطلب فقهاء المالكية، وقد حاول كل فريق منهما إثبات مطلبه من طريق النقل الصحيح عمن لا يرد عليه، أو بإقامة الأدلة الدامغة التي من شأنها إظهار الصواب، فهاهم فقهاء المالكية يردون على الباجي بآية قرآنية وبحديث نبوي شريف وها هو الباجي من ناحيته يلجأ إلى المنطق محاولاً إثبات مراده، ويأتي بمجموعة من الأدلة والبراهين التي يعتقد أنها ستفحم مناظريه. كما تحقق فيها عنصرا الفائدة والمضار، فبالنسبة للفائدة فأعتقد أن مثل هذه القضية لا تُناقش بين المدرس والطالب في حلقة المسجد، كما أن المعلومات الواردة في هذه المناظرة بحاجة إلى بحث وتنقيب والرجوع إلى مجموعة من الكتب المتخصصة، وكذلك بالنسبة للجمهور المستمع فقد حصل على معلومات قيمة بسهولة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير