إلا إن كان مراد كلامه أن عدم الجزم أمر يخالف عدم الشك ..
ولا أراه منطبقاً على مسألتنا التي تريد الاستدلال عليها ..
وإذا كانت هذه المقولة توجب عدم جزم النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة أمنا ..
فقد وجدنا أن بعض الصحابة لم يوجب هذا القول الكاذب شكاً عنده ..
وهم ليسوا بأزواج لأمنا رضي الله عنها ..
وإذا كنت تستشهد بتفسير ابن كثير رحمه الله فقد ذكر ابن جرير الطبري أيضاً كما ذكر ابن كثير أثراً عن خالد بن زيد أن أمرأته أم أيوب سألته ..
أما تسمع ما يقول الناس في عائشة قال بلى وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب قالت لا والله ما كنت لأفعله، قال فعائشة والله خير منك ..
وقال ابن كثير: فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عز وجل (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال ..
ويقال إنما قالها أبي بن كعب وقوله تعالى (ظن المؤمنون) أي هلا ظنوا الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به هذا ما يتعلق بالباطن وقوله (وقالوا) أي بألسنتهم (هذا إفك مبين) أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها
نعم إفك مبين ولو لم ينزل الله تعالى براءتها من السماء ..
لأن المقولة تطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته في أنها زنت مع قريب لها ..
وهذه المقولة كاذبة إلا أن يشهد لها برهان ..
وهذا قولنا إلى يوم القيامة وإن لم تنزل هذه الآيات التي قطعت كذب كل كاذب ..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ..
((يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا)) ..
والذي يحل أن يقال في النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة ولا يحل غيره ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع هذه المقولة كما سمعها الناس ..
ولم يأته برهان قاطع على صدق هذه المقولة أو كذبها ..
فلم يحكم بناء على ظنه هذا بالتصديق أو التكذيب ..
وإنما سأل أسامة وعلي ليعلم إن كان قد فاته شيء من خلقها لم يكن يعلمه ..
وعندما أخبرته الجارية بطهارتها وخلوها من الريبة سكت ..
رغم أن علي قال النساء كثير يريد أن لك الزواج من غيرها ..
ورغم ذلك سكت وتركها على طلبها في أن تمرض في بيت والدها ..
ولو كان الحكم بالظن ههنا يجوز لحكم به ..
لكنه عندما زار أمنا رضي الله عنها ذكرها الله تعالى وأنها إن كانت قد أذنبت فالتوبة حق واجب عليها ..
ولم يحكم عليها بشيء أصلاً ..
لأن اتباع الظن وهو اتباع ما يقال في خلق الناس وإيمانهم وتقواهم لا يجوز ..
بل لا يحل إلا إحسان الظن بهم فقط ..
فأي عمل بالظن ههنا .. ؟!
وأي عمل به ونسبة ذلك العمل إلى الله تعالى وشرعه .. ؟!
هذا دليل بطلان ما تقوله من جواز العمل بالظن ..
وأجبت عليه لئلا يظن أحد أن دلالته صحيحة على هذه الدعوى ..
وقلت حفظك الله ..
((و قال تعالى {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} ص24 و هذا ظن من داود عليه السلام اتبعه و عمل به فاستغفر ربه و تاب إلى الله تعالى)) ..
ليس كل لفظة (ظن) واردة في القرآن تعني الظن الذي تريده ..
فداود عليه السلام ههنا يعلم أنه استعجل في الحكم وحكم بالخطأ ..
ثم ظن أن استعجاله هذا وحضور هذان الرجلان لسؤاله كان لأجل ابتلاء الله تعالى له فاستغفر من هذا الحكم وخر راكعاً وأناب ..
فالله تعالى جعل الحكم بالاستعجال دون التمييز للبينة وسماع حجج الخصوم خطأ ..
فعلم داود عليه السلام هذا الخطأ فتاب منه ..
وليست التوبة من شيء إلا إن كان ذنباً أو خطأ ..
وليس هذا في محل النزاع أصلاً ..
فأين جواز العمل بالظن ههنا .. ؟
وأين جواز نسبة هذا الظن إلى الله وشرعه .. ؟!
فالذي ظنه داود هو ظلم أحدهما للآخر وابتلاء الله تعالى له وليس عمله الذي أفتى به ..
لأنه لو كان يعلم أنه قد استعجل في الحكم لما حكم ..
فهو أدرك أن حكمه كان فيه خطأ ..
فاستغفر ربه وأناب من فعله ..
¥