((أخرج البخاري و غيره عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) و معلوم ان الحاكم إذا أجتهد فأخطأ لم يصب الحق مع اجتهاده فإما أن يقال بأنه كان جازما بحكمه فيرد هذا القول بأنه لم يصب الحق في نفس الأمر فلم يكن هذا جزما و إن كان يظن أنه جازم لأن العلم الجازم هو ما وافق الحق في نفس الأمر او يقال بأنه كان يغلب على الظن صحة هذا الحكم فحكم به فأخطأ و على كلا الأمرين يجوز العمل بالظن الراجح و اتباعه لأن ما كان في نفس الأمر ليس على الحقيقة و إن كان يدعي الجزم فيه إنما هو ظن راجح لا علم جازم و ما كان يظن بأنه ظن غالب و اتبعه ثم لم يأثم بذلك دل على جواز اتباع هذا الظن.)) ..
ونقول وبالله تعالى التوفيق ..
قد بينا كل ذلك آنفاً ونزيده بياناً بعون الله ..
لازلت لا تفرق بين ما نتكلم به وننازعكم وبين ما نتفق عليه معكم ..
فانظر إلى تعليقي الأول تعرف الفرق جيداً ..
نحن نقول لا يجوز الحكم في الدين بالظن ولا يجوز نسبة هذا الظن إلى الله تعالى وشرعه ..
فالمجتهد إذا اجتهد إن كان اجتهاده بناء على الظن والرأي فهذا خطأ وإن أصاب الحق عند الله ..
وقد ذكرت أنت بنفسك هذا الأمر ..
((فمن بلغه أمر و أتى منه ما استطاع اعتقادا و عملا فقد برئت ذمته و لم يطالب بما لا يقدر عليه و من فرط في طلب الحق و لم يستفرغ وسعه فهو آثم و إن أصاب الحق في نفس الأمر و إثمه لا لأنه أصاب الحق و لكن لتفريطه فيما أمر به من طلب الحق.)) ..
وقد قسمت أنت أيضاً قول المجتهد إلى قسمين وقلت أنه إن لم يوافق الحق في نفس الأمر ..
إما أن يقال بأنه كان جازماً بحكمه ..
أو يقال بأنه كان يغلب على الظن صحة هذا الحكم ..
وبناء على ذلك فيصح العمل بالظن ..
فقد بينت أن الله تعالى لم يأمرنا بأن نقول بشيء في دينه وننسبه إليه بناء على الظن ..
وهذا المجتهد الذي حكم بشيء ولم يوافق الحق قد يكون قاطعاً بأنه حكم الله ..
أو أن ذلك بناء على غلبة الظن ..
فإن كان قاطعاً بأن ذلك مراد الله تعالى فلا يعني صدق قطعيته هذه ويقينه ..
ولو تأملت في الحجج واليقين والقطعية جيداً لأدركت ما أخطأت به ..
لا يعني أن يقول القائل هذا يقين وقطع أنه يقين وقطع عند الله ..
بل قد يخطئ القائل هذا ويظن بشيء أنه يقين وقطع وهو ليس كذلك في حقيقته ..
لأن اليقين لا يبطل اليقين في نفس القضية الواحدة والحكم الواحد ..
فلا بد أن أحد اليقينين الذين يدعيهما القائلين ههنا خطأ ..
فإما أن المجتهد كان يقول بشيء ويعتبره يقين وهو ليس كذلك في مسائل الأصول ومصادر التشريع ..
كمن يقول بإجماع أهل المدينة مثلاً أو أن قول الصحابي حجة شرعية ..
فهذا بناء عن ترجيح وعمل بالظن في هذا الأصل قال بأن الحكم في هذه المسألة الفرعية يقين بناء على أصله في حجية عمل أهل المدينة أو قول الصحابي مثلاً ..
فهنا يقينه خطأ لأنه مبني على الظن ..
وكذلك لو قال أحد أن حكمي هذا يقين وهو يستدل بالإجماع السكوتي ..
وهو ممن يعتبره ليس بحجة أو حجة ظنية ..
فقوله باليقين هنا في المسألة الفرعية خطأ لأن مبناها على ترجيح بالظن أو الخطأ ..
فكل من يدع القطع بشيء وجب أن نقف وننظر من أي وجه قال بذلك ..
فإن قال أن تفسير ودلالة النص أخذناها من اللغة التي خوطبنا بها ولا دليل أو إجماع يصرف هذا المغنى كان قاطعاً في دلالة الآية ..
أو إذا أخذ بتفسير النص من نص آخر أو إجماع كذلك ..
أو أدرك هذه الدلالة بما يدركه كل عاقل من القضايا العقلية التي يسلم بها كل الناس العقلاء ..
كقوله تعالى في اجتماع الناس على أهل الإيمان ..
فالمعلوم أن الناس كلهم لم يجتمعوا بل اجتمعت طائفة من الناس وهو الكل في تلك المحلة وذلك المكان ..
وهذه تدرك ضرورة ..
فهنا نستطيع أن نحكم على قول فلان أن ذلك قطع ..
أما غيرها من الطرق التي تستنطق النصوص فلا تعطي هذه القطعية أصلاً ..
ومن يدعي هذا فقد وقع فيما يبطله أهل الرأي أنفسهم ..
فكل هذه الطرق تعطيهم الظن ولا تعطيهم القطع بالشيء ..
فالحجة لا تبطل الحجة وهذا أس خطأك في هذه المسألة ..
فالدعوى بالقطعية لا تصح إلا بالبرهان على ما يدعيه المدعي ..
فإن ادعاه وأخطأ بتطبيقه فنعرف أنه ظن لم يكن قطع ..
فكم من قائل بالقطع بان خطأ قطعيته لأجل تخصيص لعام فاته أو تقييد لمطلق ..
أو لأجل ناسخ لم يعلمه ..
وهذا معلوم ويخبرنا أن الذي قطع على مثل هذه الأمور قبل ورود هذا التخصيص والتقييد والنسخ مثلاً كان قاطعاً بما تحت يده ولم يكن قاطعاً بالحق عند الله تعالى ..
فهو أصاب من هذه الجهة لأنه عمل بما أمره الله تعالى وكلفه ..
فيأتي من بعده ليخبرنا أن قول فلان خطأ وإنما هو ظن منه لفوات هذه المقيدات أو النواسخ عنه حين حكم ..
وهو قد أخذ الأجر وإن أخطأ في تطبيق القطع في ذلك النص ..
أما الاجتهاد بالظن وهو يعلم أن تلك ظنون لا توجب القطع فهذا شأن المجتهد وحده ..
فلا يحل له أن يقول ذلك دين الله وشرعه ولا أن يلزم به الناس ..
وهذه قضيتنا ومسألتنا وليس غيرها ..
وقد قلت لك سابقاً ..
لا يجوز أن نقول بشيء بالظن في الدين ثم ننسبه إلى الله تعالى وشرعه ونلزم الناس به ..
فلم تأت بما يعارض هذا البتة ..
بل شرعت في تبيين الظن وكأن الظن أمر معضل لا يدرك إلا بكثرة الكلام عليه ..
وقلت ..
((هذه بعض الأدلة على ما ذكرناه و غيرها كثير و لولا خشية الإطالة لذكرتها بالتفصيل.)) ..
قد أطلت كثيراً ولم تعترض على أس مسألتنا هنا ..
وليت الباقي مما سأقرأه الآن يتعلق بها ..
وتعليقي جاء لئلا يظن أحد أن هذه الدعوى صحيحة ..
فأرجو أن يكون تعليق من يعلق على ما ذكرته بأن يذكر دليل جواز العمل بالظن في أحكام الديانة وجواز نسبة هذا العمل المبني على الظن إلى الله تعالى وشرعه ..
وهذه هي التي ذكرتها وأعترض عليها أخي الفاضل ولم يأت بدليل يؤيدها ..
وبالله تعالى التوفيق ..
¥