والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحد العمل به ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال لي عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر االضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار وكان أسهل عليهم من حفظها كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه فلم يتعدوا فى استعماله قدر الضرورة ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها ... ).
قال شيخ الإسلام بن تيميه (الشرع المنزل]. وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته.
والثاني [الشرع المؤول]. وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه فهذا يسوغ اتباعه، ولا يجب ولا يحرم وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به، ولا يمنع عموم الناس منه.
والثالث [الشرع المبدل]. وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها؛ والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال إن الدم والميتة حلال ـ ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك. .. ).
فمن الخطأ القول (وكل طريق لا يوصل إلى القطع فلم نؤمر به ..
ومن قال بغير هذا فقد أخطأ يقيناً ... ) فالإجتهاد في فهم الكتاب و السنة قد يصل به صاحبه إلى القطع و قد يصل إلى غلبة الظن بل و قد يخطئ في فهم معاني الكتب و السنة و مع ذلك هذه الطريق مأمور بها بإجماع المسلمين.
و كذلك العمل بالقياس قد يصل به صاحبه إلى القطع و قد يصل إلى غلبة الظن و قد يخطئ و قد يصيب و يجوز العمل به و لا يحرم.
و قوله (فالصحابة رضي الله عنهم عملوا بما اجهدوا فيه الفكر والرأي حتى وصلوا لحكم ما وكان بالظن ..
ولم ينسبوه إلى الشرع البتة ... ) دليل على جواز العمل بالرأي الراجح و لو كان العمل بالرأي الراجح لا يوصل إلى القطع البته لما عملوا به فالقياس و القول بالرأي قد يوصل إلى القطع كما أن الأدلة النقلية قد توصل إلى القطع و القياس قد يكون خطأ كما أن فهم النصوص قد يكون خطأ فلا فرق بينهما و إن كان ورود الخطأ على القياس أكثر من وروده على النصوص لذا كان السلف لا يستعملون القياس مع وجود النص و يتورعون عن نسبة ما ترجح عندهم بالقياس إلى الله تعالى قال شيخ الإسلام رحمه الله (والقياس الصحيح نوعان:
أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرق غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فَأْرة وقعت في سَمْن فقال: [ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم]، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصًا بتلك الفأرة وذلك السمن؛ فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأَدْهَان، كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهِرِّ الذي يقع في السمن فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن. ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن فقد أخطأ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة لكن لما استفتي عنها أفتي فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو نوع فأجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم.
ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبَّةٌ مُضَمَّخة بخَلُوق فقال: [انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك]، فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع.
¥