ثم إن التفريق بين ظن يعمل به في التنزيل و ظن لا يعمل به في التأصيل تفريق لا دليل له فالظن إن كان غالب و ترجح بمرجح ظاهر يعمل به التنزيل و التأصيل و إن كان ظنا من غير مرجح ظاهر فهو ظن باطل لا يجوز اتباعه و قد بينا أكثر من مرة أن حتى نصوص الشارع من كتاب و سنة يختلف فيها أهل العلم و بعضهم يرجح ما يخالف غيره من أهل العلم و من المعلوم أن أحدهما لا بد أن يكون قد حكم بظن راجح عنده فأخطأ و لو كان حكمه بيقين لما أخطأ و لم يقل أحد له يجب أن تتوقف عن الحكم بهذا الظن الراجح لأن لو قيل هذا للزم كل أهل العلم التوقف عن الإجتهاد لأن ما من عالم إلا و قد أخطأ في فهم آية أو حديث قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} النساء23.
قال بن كثير رحمه الله (فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل, أو لم تكن في حجره, قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, ... ).
و قال كذلك (وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن موسى, أنبأنا هشام ـ يعني ابن يوسف ـ عن ابن جريج, حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة, أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان, قال: كانت عندي امرأة فتوفيت, وقد ولدت لي فوجدت عليها, فلقيني علي بن أبي طالب فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا, هي بالطائف قال: فانكحها, قلت: فأين قول الله {وربائبكم اللاتي في حجوركم}؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك, هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم, وهو قول غريب جداً ... ) فالصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا في آية واحدة على معنيين متضادين لا يمكن الجمع بينهما و لا بد أن أحدهما يكون مخطئا و من كان مخطئا لم يكن و لا شك جازما لأن الجزم لا بد أن يكون موافق الحق فلم يكن إلا مرجحا لرأي بمرجح معتبر عنده و لو لم يكن مرجحا بمرجح عنده لم يقل بهذا القول و لتوقف عن الترجيح فدل على أن الترجيح بغلبة الظن عند الصحابة جائز حتى لو كان في كتاب الله و هذا دأب كل أية أو حديث اختلف أهل العلم في معانيها على أقوال متضادة و هذا دليل ظاهر على أن أهل العلم كانوا يستعملون الظن الراجح في فهم كتاب الله تعالى و سنة النبي صلى الله عليه و سلم و لم يتوقفوا عن العمل بهذا الظن حتى لو في كتاب الله تعالى ثم مع ذلك يقولون بأن هذا هو مراد الله تعالى في كتابه و مراد رسول الله صلى الله عليه و سلم في سنته أو يدل عليه حالهم.
فالأخ الفاضل تمسك بأن الآية المقصود بها العمل بين الزوجين و نحن نتكلم عن تعليق الله تعالى حكم الرجوع بالظن و هذا حكم كلي لا عيني فكل من أرادا أن يتراجعا و ظنا أنهما يقيما حدود الله تعالى فلا جناح عليهم أن يتراجعا فتعليق هذا الحكم بالظن دل على جواز العمل بالظن الراجح و أنه ليس من الظن المحرم المنهي عنه.
و أما قوله (فالظن ههنا ليس كما ذهبت إليه في تفسيرك ..
فهو أمر ظاهر للزوج والزوجة من خلال ما يشاهدان ..
وهما لا يقطعان بأن يقيما حدود الله تلك في كل أحد ..
لأنك لا تستطيع أن تقطع بخلق شخص وأنه سيأتي بالحلال دائماً ..
لكن ظهر من قول الزوج وتوبته وعزمه على ترك ما أوجب التطليق أنه سيقيم حدود الله فيها التي تركها عند التطليق الأول ..
وكذلك الزوجة ولا فرق ..
فلم يكن الحكم بناء على الظن ههنا ..
إنما هي موافقة على الزواج أو عدم الموافقة بظهور ما يدل قطعاً على ترك التعدي على حدود الله ..
لأنك لا تستطيع أن تقول أن المطلقة لأجل ترك إقامة حدود الله وشريعته في الزوجية ترجع للزوج دون أن تتأكد منه أنه لن يعود إلى ذلك ..
وكذلك الزوج بلا فرق ... ).
من عبارات الأخ نستطيع أن نعرف أن الأمر في حقيقته و إن كان في بعض أحواله قد يجزم به و لكن الظن الغالب يقع في بعض طرقه فقوله (فهو أمر ظاهر للزوج والزوجة من خلال ما يشاهدان) و الظاهر غير المقطوع به و قوله (لكن ظهر من قول الزوج وتوبته وعزمه على ترك ما أوجب التطليق أنه سيقيم حدود الله فيها التي تركها عند التطليق الأول .. ) و قوله (إنما هي موافقة على الزواج أو عدم الموافقة بظهور ما يدل قطعاً على ترك التعدي على حدود الله .. ) فالحكم بصلاح الزوج أو الزوجه هو في حقيقته ظن غالب لا جزم فقد يصرحا أن يريدا أن يقيما حدود الله و لكن يتبين من حال أحدهما مثلا أن لا يريد أن يقيم حدود الله و قد يجزم بأن يريد إقامة حدود الله و قد يتوقف فيه بالنظر إلى حاله هل هو ممن يقيم حدود الله الله أم لا؟ و قد يغلب على الظن أن يقيم حدود الله و لا يجزم به فمتى ما جزم بأنه يريد أن يقيم حدود الله بالتبين أو غلب على ظننا جاز التراجع و كلامنا هنا عن الحال لا المآل فالمآل لا نعلم به لأنه قد نجزم من حاله أن يريد إقامة حدود الله و جزمنا حق في حاله الذي نراه و لكن قد يتغير دينه و خلقه و يتغير حاله فيما بعد فيكون عندنا جزم آخر يضاد الجزم الأول في حالين مختلفين.
فالموافقة على التراجع مشروطه بالظن أنهما يقيما حدود الله و الظن هذا يعرف من حالهما حين إرادة التراجع لا أنه معلق بحالهما بعد التراجع و معرفة حالهما مقيده بالظن لا الجزم أي متى ما ظن أنهما يريدا إقامة حدود الله بينهما جاز التراجع و لو ترجح عدم إقامة حدود الله أو توقف لم يجز التراجع و لو تراجعا و هذه حالهما كانا ممن اتبع الظن المحرم لا المشروع.
فدل على أن الآية حجة في العمل بالظن الراجح سواء كان العلم في الكليات أو المعينات.
¥