يقول أستاذنا الدكتور محمد أحمد سراج "ولا يتردد بعضهم- يعنى مؤرخينا- فى وصف التفكير الفقهى فى هذه الفترة بالانحطاط، ويقع كثير من أذكياء هؤلاء المؤرخين، ومن أعظمهم قدرة ومثابرة، فى وصف هذه الفترة بهذه الأوصاف المثبطة للهمم، والتى لا تتفق مع الواقع.
ويبلغ تناقض هؤلاء المؤرخين مداه حين يطلقون ما يسمونه "عصر النهضة الفقهية" عنوانا على تلك الفترة التى تبدأ من أواخر القرن التاسع عشر إلى الآن، وهى الفترة التى شهدت إقصاء التشريع الإسلامى عن التطبيق العملى، إلا فى مجال الأحوال الشخصية.
ومن غير المنطقى على الإطلاق أن يتسع ما يسمى "بعصر الضعف والجمود" ليشمل فترة تطبيق الفقه الإسلامى فى أكثر أجزاء العالم حضارة ورقيا طوال العصور الوسطى، وبدايات العصر الحديث، وأن يطلق ما يسمى "عصر النهضة" على تلك الفترة التى أقصى فيها المستعمر معظم أجزاء الفقه من التطبيق، وذلك لمجرد إنشاء بعض أقسام الشريعة فى جامعات العالم الإسلامى، أو عقد بعض الندوات والمؤتمرات الداعية إلى إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية.
ويظهر لى أن الأسباب السياسية والعلمية التى يسوقها مؤرخو التشريع الإسلامى جميعهم ليست كافية بأى وجه لنعت هذه الفترة من تاريخ الفقه الإسلامى بالتخلف والضعف والجمود.
ولسنا مضطرين على أى نحو لتبرير فرض المستعمر لقوانينه وتشريعاته بإلقاء اللوم على أنفسنا، وحالة التفكير الفقهى السائدة.
لقد فرض المستعمر الغربى قوانينه بعد الهزيمة العسكرية التى منيت بها مجتمعاتنا، وكانت فى يده وسائل فرض هذه القوانين فى البلاد التى احتلها، مثل مصر، على حين استمرت مجلة الأحكام العدلية المستمدة من المذهب الحنفى فى التطبيق فى البلاد التى لم تكن يد المستعمر قد نالتها بعد.
ويتجاهل ادعاء وصف الفقه الإسلامى بالضعف والجمود فى هذه الفترة جهود الفقهاء والمفتين والقضاة فى تطوير التفكير الفقهى وإقداره على الاستجابة لمصالح البلاد الإسلامية فى ظروفها السياسية والاجتماعية عبر ثمانية قرون" ().
وعلى كل حال فإننا سنتناول أبرز ما هو شائع عن هذا العصر على أمل أن تكون لنا فى المستقبل القريب نظرة فاحصة فيه.
المبحث الأول
أثر الفتن والاضطراب السياسى على الاجتهاد الفقهى
ابتداء من الدور الثانى من أدوار التشريع الإسلامى والفتن والاضطرابات تعصف بالحياة السياسية فى الدول الإسلامية المتتابعة، لكن هذه الفتن لم تكن فى الطور الثانى والثالث والرابع من أطوار هذا التشريع ذات تأثير ضار بالنشاط العلمى، بل على العكس كانت الفتن دافعا لنهضات علمية رائعة، فقد كانت فتنة الردة دافعا لجمع القرآن الكريم، وكانت فتن الخوارج والرافضة وأمثالهم ممن عمدوا إلى وضع الأحاديث دافعا إلى استنهاض الهمم فى ضبط أصول الرواية وظهور علم الجرح والتعديل الذى يسر الطريق لجمع السنة المشرفة، كما أن فتنة خلق القرآن الكريم كانت دافعا لنهضة عقلية وعلمية ولم تكن أبدا مدعاة للتخاذل والتراجع.
ولكن الفتن والاضطرابات التى أَلمَّت بدولة الخلافة فى منتصف القرن الرابع الهجرى وحتى سقوط بغداد فى أيدى التتار كان لها الأثر الضار على النشاط العلمى والفقهى بوجه خاص.
فقد أثرت –كما يقول المؤرخون- نظرا لتتاليها وتتابعها على التشريع الذى لابد له من الجو الهادئ والحرية المطلقة، فضلا عن تشجيع العلماء على البحث والاجتهاد، ففى ظل الفتن والصراعات السياسية انشغل الحكام بالسياسة وانصرفوا عن رعاية العلم والعلماء مما أضعف الحافز لدى الفقهاء على التجديد وإعمال الفكر ().
ولكننا لا نظن أن الاضطراب السياسى وحده هو الدعى إلى الضعف الفقهى، وفقدان روح الاجتهاد المطلق، ذلك أن قدر الأمة الإسلامية أنها أشد نهضة فى المحن عنها فى أوقات الاستقرار والدِّعَة، فكما يقول ربنا: ?ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت بيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا () ?فالمِحَن للمسلم كالوقود للقاطرة متى نفد توقفت، وصدق الله حيث يقول: ?أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ? ().
¥